حبا الله جهة سوس عموما برجالات أعمالها ومجتمعها المدني الغيورين على تنمية مسقط رأسهم بالمناطق النائية بأعالي جبال الأطلس الصغير، لدرجة رفعت الجهات الوصية يدها على الإستثمار التنموي هناك، مقارنة مع باقي مناطق المملكة، وخاصة القريبة من الحواضر الكبرى.
أتساءل كيف كان سيكون حال مداشر سوس، لو إتكل أهلها على الجهات الرسمية لوحدها؟ لربما سنظل نعيش في العصور الغابرة زمانيا.
إجتهدت الساكنة في بناء منازل حديثة في مناطق نائية جافة ووعرة الولوج تشبتا بالأرض وضمانا للإستمرارية، وخلقوا مشاريع تجارية صغرى كالمتاجر والمقاهي والفنادق لتشجيع الحركة الإقتصادية بالأسواق الأسبوعية، وتشبتوا بالمواسم الصيفية لإحياء الرحم وإنعاش التقاليد المحلية، وأحيوا مهرجانات وتجمعات ثقافية كبرى لتقديم فرجة للزوار والمغتربين، في غياب دعم رسمي تفضيلي. المهم، إجتهدوا بما كسبت أيمانهم، ليس سداجة منهم، بقدرما هو موقف شجاع لرد الإعتبار للمناطق الجبلية المهمشة.
في ظل هذا الإجتهاد الإستثنائي، الذي لا يضاهيه أي مجهود مماثل بمناطق أخرى بالمملكة، إذ أن أكبر تجمع للجمعيات التنموية الفاعلة والجادة بالمغرب تتمركز بجهة سوس، تظل الجهات الرسمية تغض الطرف وتصم الآذان مادام هناك ذوي النيات الحسنة يقومون مقامها.
يبدو أن الجهات الرسمية رفعت يدها عن الجنوب السوسي إعتقادا أن المجتمع المدني والفاعلين الإقتصاديين المحليين يحلون محل الواجب الرسمي، ويعوضون إهتمام الجهات الوصية عن تنمية أدرار.
وإن شقت بعض الطرقات في جبال سوس لفك العزلة، وتم ربط جل القرى بالكهرباء، تبقى مبادرات الإستثمار القروي في تنمية قدرات الساكنة، وتشجيع الإستقرار وتوفير فرص الشغل جد ضعيفة مقارنة بإنتظارات الساكنة.
بأيت عبد الله بإقليم تارودانت، أكبر إقليم بالمملكة ب 89 جماعة أغلبها قروية، على سبيل المثال، هناك عدة مشاريع قيمة أنجزها الفاعلون المحليون، في غياب مواكبة ومصاحبة الجهات الرسمية.
تم بناء وتجهيز مركز صحي من الدرجة الثانية من طرف الفاعلين الإقتصاديين، بعد وضع الحجر الأساسي من طرف عامل صاحب الجلالة على الإقليم، بمواصفات الجودة المطلوبة ومعايير المنشآت الصحة الوطنية، مع إنجاز سكن وظيفي بمحادات المركز الصحي لإيواء طبيب مقيم. وظلت البناية قائمة لأزيد من 4 سنوات تتقادم دون أن يتم إستلامها من طرف وزارة الصحة أو تدشينها وبدون تعيين طبيب قاطن. في المقابل تم هذه الأيام إقامة مستوصف متنقل مؤقت للتطبيب عن بعد من طرف المبادرة الوطنية للتنمية البشرية بجانب بناية المركز الصحي، في منظر سريالي، كمنشأة درة للبناية الجاهزة للتسليم.
من جهة أخرى، ظل تلامذة الثانوية الإعدادية وعائلاتهم يمنون النفس في إستمرار أبنائهم في التمدرس بالمركز دون الحاجة للتنقل لبلدة إيغرم لاستكمال تعليمهم الثانوي، علما أن العملية تكلف الهدر المدرسي لعدد من فتيات المنطقة. وفي ظل تعنت الجهات الوصية، ولرأب الصدع، تكلف أحد رجال الأعمال بإنجاز عدة أقسام بمقر الإعدادية في ظرف قياسي لإستقبال تلامذة السلك الثانوي خلال الدخول المدرسي الحالي بموافقة الجهات التربوية الإقليمية. إلا أن الحظ التعس ظل لصيقا بهذه المبادرات، وكتب لها أن تدخل غرفة الإنتظار كالمركز الصحي.
وفي مبادرة نوعية متواضعة، قامت جمعية تيويزي للتنمية الإجتماعية لأيت عبد الله، بتمويل من أحد أبناء المنطقة البررة، وبشراكة مع الجماعة الترابية، بتثبيث مرافق صحية عمومية متنقلة بمواصفات عالية للنساء والرجال خدمة لرواد السوق الأسبوعي بالمركز، لتعميم النظافة والحد من إنتشار التعفنات الناتجة عن قضاء الحاجة البيولوجية في العراء. وظلت هذه المرافق بالمركز دون ربط بالكهرباء والماء ومطفية التطهير السائل لما يزيد عن سنة كاملة. وتتعرض حاليا للتخريب من طرف المتهوريين. إلى متى سيظل الإهمال واللامبالات يلاحق المبادرات الفاعلة؟
إذا كانت الدواوير تتكلف بتبليط المسالك الطرقية المؤدية لداخل المداشر من مالية جمعيات المجتمع المدني لتسهيل الولوج للمركبات بتكلفة مادية مهمة، في إستنزاف لمالية المساهمين، التي كانت ستصرف في حاجات أكثر مردودية، كتنمية مشاريع صغرى مدرة للدخل لنساء المداشر، فأين دعم ومصاحبة الجهات الرسمية في هذه العملية؟
ولتوفير الماء الصالح للشرب بالدواوير خاصة في فترة الجفاف الحاد، قامت الجمعيات بحفر الأبار أو تعميقها بحثا عن إكتفاء ذاتي للمادة الحيوية الضرورية لإستمرار الحياة. وهل توفير ماء الحياة مسألة جمعوية؟
تعج جبال وسهول سوس بمساجد الدواوير مجهزة بإعانات أهل الدوار البسطاء، وسخاء الكرماء، وبمدارس عتيقة تأوي العديد من طلبة الفقه بتمويل المحسنين المحليين طمعا في الأجر وحماية لتقليد التدين السوسي المتميز المعتدل والمتسامح، الذي ظل عن منأى من التطرف والغلو الذي عرفته مدارس الثيار السلفي بالحواضر. فأين هي نصيب المنطقة من مالية الأوقاف الضخمة؟
بإختصار، الفاعلون المحليون، والمجتمع المدني في سوس، دولة وسط دولة، قامت مقام الجهات الرسمية في سد الخصاص، وإحتضان المشاريع الجمعوية، والتخفيف من قساوة الظروف المعيشية بإحسان الأرامل وترميم مساكن الفئة الهشة، وتنظيم حملات طبية موسمية، وخاصة إزالة المياة الزرقاء (الجلالة) التي تستمر حملة في الإختصاص لحد كتابة هذه السطور بمنطقة تافراوت، ومبادرات قيمة أخرى لا تتسع المساحة لذكرها.
هذا الإهمال الذي تقابل بها الجهات الرسمية المشاريع الممولة من الخواص بقرى سوس، تبخيس لوطنية الداعمين، وتقزيم للأعمال التنموية بأدرار، وتقليل من المجهودات الجمعوية المبدولة بالجبال، وإحتقار للساكنة المغلوبة وهضم لحقوق المواطنين المرابطين بالاعالي.
وفي إنتظار الخروج من غرفة الإنتظار، ويحين موعدنا مع تسليم وتشغيل البنايات الرسمية الجاهزة، أطال الله عمر الفاعلين الغيورين، ورزق الصبر صبرين للساكنة المسكينة.
إلى ذلك الحين، تصبحون على إلتفاتات مستدامة بعيون أكثر رحمة في إتجاه إستعادة الحقوق المهضومة.
وقل إأنتظروا، إنا معكم لمن المنتظرين.