نص لـ: دايفيد منتغومري هارت
مقاومان أمازيغيان ضد الاستعمارين الفرنسي والإسباني بالمغرب وموروثهما الإسلامي
بن عبد الكريم الخطابي وعسو اوباسلام نموذجا
ترجمة بتصرف: نبيل وهبي
لم يكن يشكل الإسلام لدى الغرب قبيل النهضة الإسلامية التي برزت على الساحة الدولية إبان الثورة الإيرانية سنة 1979 قوة تغيير في المجالين الاقتصادي والاجتماعي، بال العكس من ذلك، كان الغرب ينظر إلى الاسلام كدين جد محافظ وتقليدي، وأن جميع التحولات التي طرأت آنذاك لم تكن نتاجا له، إن الإقرار بعدم صحة هذا الرأي يظل أمرا بديهيا، إلا أنه لا يزال العديد من الأكاديميين يخطبون بإسهاب حول الصبغة الأحادية للإسلام وشدة تصلبه واستحالة نفاذه كيفما كان الأمر. إن هذا الرأي، ورغم خلفياته، لم يأخذ بعين الاعتبار أن الإسلام ليس بمثابة دين فحسب، بل يحمل في طياته أسلوب عيش يطبع في يومنا هذا العديد من اقطاب العالم ويمتاز بقدرته الفائقة على التأقلم والتطور والتحول دون أن يضحي بأية ركيزة من ركائز توجهه الأيديولوجي والعقائدي بما في ذلك الطقوس والمعتقدات والمؤسسات الدينية التي ينص عليها القرآن والسنة والشريعة والقانون العرفي.
وبالتالي وجب علينا الانطلاق من هذا المنوال قصد معالجة ظاهرتين بارزتين للمقاومة الأمازيغية ضد الاستعمارين الإسباني والفرنسي. ونعني بذلك مقاومة محمد بن عبد الكريم الخطابي في منطقة جبال الريف أول الأمر ضد الاستعمار الإسباني، وفي مرحلة لاحقة ضد الاستعمار الفرنسي، هذا من جهة، ومن جهة أخرى مقاومة عسو أوبسلام من قبيلة آيت عطا جنوب المغرب ضد الاستعمار الفرنسي…
كان بإمكاننا أن نتحدث عن أمثلة أخرى من المقاومة الأمازيغية ضد الاستعمار الفرنسي وعن مقاومين آخرين أمثال موحا أوحمو اسمحازون الزياني، من قبيلة زايان بالأطلس المتوسط، إلا أنه مادام قد تمت الإشارة إليها سابقا وبإتقان من لدن بيساشينار في مقاربة له بين تجربة عبد القادر الجزائري في القرن السالف ومقاومة بن عبد الكريم الخطابي خلال هذا القرن، مشيرا إلى الاختلاف النوعي بين مفهوم الجهاد لدى عبد القادر ومفهوم الحرب التحريرية عند عبد الكريم، ارتأينا أنه من المناسب استدراج التباين الظاهر، وذلك في تحليل مقارن بين مفهوم الإصلاح عند هذا الأخير ومفهوم التقاليد والأعراف الصرفة لدى عسو أوبسلام.
سنتناول بدليا تجربة محمد بن عبد الكريم الخطابي نظرا لخاصيتها التاريخية والكرونولوجية ذلك أنها سبقت تجربة عسو أوباسلام. ومما لا شك فيه سنعتمد في تحليلاتنا هذه على استطلاعاتنا الميدانية، إذ قمنا بأبحاث اجتماعية وسوسيولوجية خلال المرحلة التي تمتد بين 1953 و1965، حول هذين المجتمعين. فيما يعتبران مجتمعان قبليان، لغتهما الأصل هي الأمازيغية، ويتحدثان لهجتان مختلفتان تنحدران من نفس اللغة الأم، أي الأمازيغية كما أشرنا إلى ذلك سابقا حسب وجهة نظر الأنتروبولوجيا الاجتماعية. فمن جهة، نجد أيث وريياغر (بني ورياغي في الاصطلاح العربي) في منطقة الريف، شمال المغرب، من حيث أصل محمد بن عبد الكريم الخطابي، ومن جهة أخرى، قبيلة أيت عطا في منطقة صاغرو، في الجهة الوسطى من جنوب البلاد، حيث الموطن الأصلي لعسو أوباسلام.
وقبل قرن مضى على ما يسمى حاليا بالصحوة الإسلامية أو “الأصولية” ظل أبرز مثال للنهضة الإسلامية هو الحركة الاصلاحية التي اصطلح عليها السلفية، هذه الحركة التي شددت على العودة والرجوع إلى الإسلام الحق والأصيل، برزت كرد فعل ضد الوجود الاستعماري الأوروبي خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وعرفت أوجها خلال عهد جمال الدين الأفغاني (توفي سنة 1879) في إيران ومحمد عبده (توفي سنة 1905) في مصر. ولقد كان للإصلاح السلفي بطريقة أو بأخرى، وقعا هاما على مجمل الأقطاب الإسلامية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، في المشرق والمغرب “العربي” وحتى في المغرب خصوصا بعد إعلان الحماية الفرنسية والإسبانية عام 1912، ومما لا شك فيه فإن الذي سيعرف فيما بعد بالقائد الريفي، محمد بن عبد الكريم الخطابي الذي ولد عام 1881 في جماعة قبيلة بني ورياغل في أجدير (التي كانت آنذاك عبارة عن مجموعة من الدور المتفرقة المطلة على ساحة الحسيمة) فرقة أيث يوسف أوعلي، سيصبح أحد أهم ممثلي القبايل والقرى الأمازيغية ببلاده. مرد ذلك، تشبعه بفكر الإصلاح السلفي خلال المدة التي تمتد بين 1903 و1906 حينما كان يتابع دراسته من أجل ولوج القضاء، بجامعة القرويين بفاس، تحت إشراف العديد من العلماء، نذكر من بينهم على وجه الخصوص العالم والدكتور محمد جعفر الكتاني (توفي سنة 1927) والذي ستجمعه به صلة حميمة استمرت حتى بعد إتمام دراسته عن طريق المراسلة.
تشبع ابن عبد الكريم بأفكار الحركة السلفية (خصوصا، دعوتها الشديدة للرجوع إلى أصول الإسلام الحق في مرحلة أولى ثم مواجهتها للأتراك والطرقية والزوايا الصوفية كرمز للوساطة بين الله والإنسان في مرحلة لاحقة) ونمى وتوقد فكره خصوصا خلال الرحلة التي تمتد بين 1906 و1919 حينما سجن هذا الأخير، الذي تلقى مستوى دراسيا لم يحظ به العديد من أبناء قبيلته، بمدينة مليلية المحتلة. عمل محمد بن عبد الكريم الخطابي في قسم الترجمة العربية بيومية مليلية المحتلة “إيل تيلغراما ذيل ريف“، وفي سنة 1914 تم تعيينه قاضي القضاة بجهة مليلية. إبان ذلك، ونتاجا للتقسيم الذي عرفه المغرب قام ابن عبد الكريم بنشر العديد من المقالات في الجريدة نفسها معبرا فيها عن ميولاته السياسية والتي كان يدعوا فيها إسبانيا إلى عدم تجاوز نفوذ حدود مستعمراتها التاريخية ويعني بذلك حدود مدينتي سبتة ومليلية الساحليتين، وبسبب أفكاره الوطنية تم سجنه، وبعد مرور سنتين على محاولته الفرار من السجن والذي تسبب في كسر ساقه، تم إطلاق سراحه. إثر حصوله على ترخيص من طرف السلطات الإسبانية يسمح له بزيارة موطنه الأصلي، عاد ابن عبد الكريم إلى أرض أجداده مغادرا مليلية التي لن يعود إليها مطلقا.
لقد قمنا بعرض ما سبق كي نبين بأنه إضافة إلى أن محمد بن عبد الكريم تلقى تكوينا مميزا عن باقي مجايليه من أبناء قبيلته، فإنه بقي لمدة طويلة على علاقة وطيدة بالإسبان ولم يفترق أو يقطع أواصره معهم إلا بعد أن استلم زمام القيادة لاسيما حينما أحرز انتصاراته الأولى عن الجيوش الإسبانية في مواقع إغربينْ ودهار أوباران وأنوال (مناطق تقع في الجهة الشرقية لجبال الريف على حدود مناطق قبائل تمسمان وأيث أوريشك) صيف سنة 1921. يجب الإشارة هنا إلى أن مواقف ابن عبد الكريم الوطنية كانت متميزة عن مواقف معاصريه من القوميين، إذ لم تكن تمثل مواقف “تقليدية صرفة” ولم تكن عصرية في كليتها. والسبب في ذلك يرجع إلى أفكاره السلفية حيث أنه بعد عام 1921، عندما أصبح قاضي أجدير مجاهدا يذود عن الإسلام، صارت إصلاحاته الداخلية والتي عمت المجتمع الريفي قاطبة، السبب في اندلاع الحرب على جبهتين عام 1925، ضد القوات الاستعمارية الإسبانية من جهة، وضد قوات الاحتلال الفرنسي من جهة أخرى.
وخلال المرحلة التي تمتد بين 18 يناير و 1 فبراير 1923، أعلن محمد بن عبد الكريم الخطابي قيام دولة الجمهورية الريفية، أما النص العربي لهذا الإعلان فقد اكتشفه وترجمه وقام بنشره بينيل، وهو ما أسماه بنص البيعة، وهو عبارة عن نص قسم الوفاء الذي جرت العادة أن يؤديه المغاربة لشخص السلطان. ولقد علمنا من خلال بعض الاستطلاعات التي قمنا بها آنذاك، أنه جرى جدال حاد حول موضوع مصطلحي دولة وجمهورية، إذ دعا العديد من المؤسسين إلى استبدال هذين المصطلحين بمصطلح جبهة، وذلك نظرا للوضعية الطارئة التي عرفت نشأة حكومة ابن عبد الكريم والتي جرت خلال مرحلة الحرب. ترأس هذه الحكومة محمد بن عبد الكريم الخطابي، ويجب الإشارة هنا إلى أنه أعلن خلال سنة 1925، وهي مرحلة أوج حكومته، أنه حال تحقيق الانتصار الشامل، فإنه سيسلم زمام الحكم لممثل آخر، ويعلم الجميع أن ذلك لم يحدث، إذ أن ابن عبد الكريم استسلم في أواخر مايو 1926 للسلطات الفرنسية.
وخلال المرحلة التي تمتد بين 18 يناير و 1 فبراير 1923، أعلن محمد بن عبد الكريم الخطابي قيام دولة الجمهورية الريفية، أما النص العربي لهذا الإعلان فقد اكتشفه وترجمه وقام بنشره بينيل، وهو ما أسماه بنص البيعة، وهو عبارة عن نص قسم الوفاء الذي جرت العادة أن يؤديه المغاربة لشخص السلطان. ولقد علمنا من خلال بعض الاستطلاعات التي قمنا بها آنذاك، أنه جرى جدال حاد حول موضوع مصطلحي دولة وجمهورية، إذ دعا العديد من المؤسسين إلى استبدال هذين المصطلحين بمصطلح جبهة، وذلك نظرا للوضعية الطارئة التي عرفت نشأة حكومة ابن عبد الكريم والتي جرت خلال مرحلة الحرب. ترأس هذه الحكومة محمد بن عبد الكريم الخطابي، ويجب الإشارة هنا إلى أنه أعلن خلال سنة 1925، وهي مرحلة أوج حكومته، أنه حال تحقيق الانتصار الشامل، فإنه سيسلم زمام الحكم لممثل آخر، ويعلم الجميع أن ذلك لم يحدث، إذ أن ابن عبد الكريم استسلم في أواخر مايو 1926 للسلطات الفرنسية.
هناك حدثان يستقطبان اهتمامنا بامتياز، فعلى الرغم من أن بن عبد الكريم رفض رفضا باتا لقب السلطان، وحث أتباعه على غرار مخزن السلطان، تضم أقرباءه وأصحابه من بني أجدير والسهل العلوي لقبيلة بني ورياغل الذين كانوا يمثلون هيأته الوزارية. ولقد تم تعيين ابن عبد الكريم رئيسا للجمهورية و“برلمانها” الذي طوره عن مفهوم “أكراو” الذي كان يضم ممثلي قبائل الأعيان والشيوخ، أو ما اصطلح عليه بـ“ئث حاربيين“. ولقد رفض ابن عبد الكريم منزلة لها صلة بمنزلة السلطان. واللقب الوحيد الذي عرف به، خاصة بعد استقراره بعيدا عن موطنه الأصلي بمصر عام 1947، كان هو لقب الأمير. بالإضافة إلى كل هذا، صرح عبد الكريم في آخر أيامه بنفيه أن تكون حرب الريف حربا دينية، بل حسب قوله كانت تشكل حربا تقدمية وطنية. بيد أن أغلب أتباعه من رجال قبائل الريف وصنهاجة وغمارة وجبالة، أي جل القبائل التي كانت تحت سيطرته بشمال المغرب، أكدوا على أن حربهم ضد أمم أوروبية ومسيحية كانت حربا دينية، وهكذا تم الإعلان عنها في أسواق القبائل. على أية حال، فإن موضوع طموح أو رفض عبد الكريم لتقلد منصب السلطان (ورغم ميولنا إلى الرأي الذي يقول بأنه كان ضد ذلك) فإن وجود شخص ذي قوة، ونعني بذلك عبد الكريم نفسه، في قمة أوج مركز القرار، وإن كان الأمر يتعلق بأسس “إنابية” وخلال مرحلة عمتها الحرب، فإن وجوده كان حاسما، ذلك أن هدفه كان يرتكز على وضع حد لمرحلة السيبة والفوضى التي عمت أرجاء الريف خلال مدة تتجاوز العقدين، وهو ما كان يطلق عليه الريفيون اسم ريفوبليك (1898/1921). ولقد حقق بن عبد الكريم ذلك عن طريق تركيز السلطة السياسية في شخصه وبواسطة قيادة وترأس التجمعات القبلية التي تمثل جهات الريف بحيث كانت حصة الأسد لصالح أقربائه من أبناء قبيلته وبني ورياغل.
لا جرم أن إصلاحات ابن عبد الكريم الأولية قد ارتكزت أساسا على تحقيق الأهداف التي كانت تتطلبها وتستعجلها مرحلة الحرب، والأهم في هذا الموضوع هو أغلب الإصلاحات، والتي تميزت بتعددها سواء أكانت نوعية أو ذات أهمية قصوى، استمرت ودامت حتى بعد مغادرته ميدان العمليات. فثمرة إصلاحاته خلال الحرب أتت أكلها خلال مرحلة الحماية ودامت حتى بعد نيل الاستقلال.
يجب الإشارة هنا إلى نقطة بالغة الأهمية، إن أن كون ابن عبد الكريم قاضيا، جعله يوجه مجمل إصلاحاته إلى إلغاء “القاعدة” و“القانون العرفي” الريفيين، وحينما استعصى عليه ذلك، حاول تقريب هذه الأعراف من قوانين الشريعة. كما أنه رفض رفضا تاما الثأر من الشخص الذي سمم والده وتسبب في قتله، واستغل ذلك بدهاء لمنع أعمال الثأر والانتقام الجاري بها العمل آنذاك بين المجتمعات القبائلية الريفة، خصوصا بين أبناء قبيلة بني ورياغل. وإثر تقلده مناصب الحكم قرر حكم الإعدام في حق كل من ارتكب جريمة الثأر والانتقام. كما أمر بهدم جميع “إشبراون” الحصون الطبيعية التي كان يشيدها ويبنيها أبناء الريف أمام دورهم لاستغلالها في ارتكاب عملية القنص الانتقامية. وكل من تحدى هذه القرارات وتابع عملياته الانتقامية تم إعدامه في الأسواق من طرف حراسه الخاصين الحفاظ، وذلك عن طريقة كتائب الإعدام. كما لقي نفس العقاب كل من ثبتت عليه تهمة الخيانة أو العمالة للإسبان. نذكر من بينهم شخصيتان بارزتان من قبيلة بني ورياغل، يتعلق الأمر بكل من سيدي عبسرام بورجيلة وحمو نرحاج عيسى. لقد تم إعدامهما رميا بالحجارة لأن ابن عبد الكريم شدد على عدم جدوى تضييع ذخائر نفيسة من أجلهما.
إصلاح ثالث هام قام به ابن عبد الكريم، وذلك غالبا إبان إعلان الجمهورية الريفية، كان هو إبطال الصيغة الجماعية للحنث الجماعي الريفي (ريمين أو ذزادجيث)، إذ أن تكوينه كقاض جعله يعتبر ذلك حراما.
فطبقا لنصوص الشريعة أقر ابن عبد الكريم أن الذي عليه أداء القسم هو الشخص المتهم وليس غيره من أقربائه الذين كانوا يؤدون الحنث معه. وهو تصرف كان يعم جميع مناطق الريف والأمازيغ، ودام إلى حدود سنة 1956 في قبائل أيت عطا وقبائل أمازيغ جنوب المغرب. وكان لقرار ابن عبد الكريم هذا وقعا كبيرا حتى أن أبناء الريف من الشباب الذين قمنا باستجوابهم خلال أبحاثنا الميدانية عام 1950 كانوا يجهلون أن القسم الفردي الجاري به العمل آنذاك كان قبل ذلك قسما جماعيا. فخلاصاتنا عن وجود الحنث الجماعي كان نتاج استطلاع مطول ومفصل للفئة المعمرة من سكان الريف. وخلاصة القول هو أن القسم الريفي المتمثل في نوعيته لدى أبناء أيت ورياغل كان أقل تطورا مما هو لدى قبائل أيت عطا. فخلافا عن الحنث الجماعي لدى هؤلاء، كان القسم الريفي يؤدى يوم الجمعة بعد صلاة الظهر في المسجد وبواسطة القرآن ولم يكن في الزوايا أمام الشرفاء والأولياء الصالحين كما هو الحال بالنسبة لأيت عطا. كان يمثل أثناء أداء القسم ستة أشخاص (المتهم وخمسة أفراد من أقربائه قرابة أبويه) فيما يخص القضايا الأقل خطورة كسرقة مجاري المياه أو المساس بالأملاك، في حين وجب حضور 12 فردا للإدلاء بالقسم الجماعي (المتهم و11 قريبا قرابة أبويه) وبالنسبة لقضايا الاغتيال والقتل. كما أنه خلافا لأبناء أيت عطا الذين امتازوا بتفاديهم لمفهوم الإشهاد، فإن هذا الأخير اكتسى لدى بني ورياغل صبغة أخرى مختلفة، ذلك أن قسم المتهم فيما يخص نفيه للتهمة المنسوبة إليه أمام أقرباءه ممن يؤدون اليمين يظل باطلا في حين تعادل شهادة العدول (الموثق) أو عون القاضي شهادة ستة أشخاص، وبالإضافة إلى هذا كله، يؤمن سكان بني ورياغل إيمانا راسخا بعقاب إلهي شديد، لكن من حنث حنثا كاذبا فيصاب بالموت أو بعمى البصيرة. ومن خلال هذا يتجلى لنا بوضوح وجود صلة وطيدة بين مفهوم القسم الجماعي لدى قبائل الريف ونصوص الشريعة أكثر مما هو الحال بالنسبة لقسم أبناء قبائل أيت عطا. كما كما تم إلغاء وساطة “الشرفاء” أو إيمرابظن (الأولياء الصالحين المحليين، الأموات منهم والأحياء) والترجمة الريفية لمصطلح “الشرفاء” وتم تعويض التجمعات القبلية “لأيت حاربيين” بما اصطلح عليه بالبرلمان أو “مجلس النواب“.
أما فيما يخص الموضوع الرابع والذي لا يقل أهمية عن باقي المواضيع السالفة الذكر، وبما أن ابن عبد الكريم اهتم بنظام التحالفات والزمرات أو ما اصطلح عليه بالليف (جمعه اللفوف)، ويبقى جليا أن كان ينظر إلى هذه الظاهرة بنفس النفور الذي عبر عنه في الثأر والانتقام والقسم الجماعي، ويجب أن لا ننسى أيضا أنه تطرق لهذه الظواهر الأربعة من حيث صعوبة استئصالها وانفرادها بالتسلسل والترابط فيما بينها. فمثلا سمح بقيام تحالفات كانت في صالحه ونذكر أنه استفاد من دعم ومؤازرة سكان قبيلة “إمرابظن” من حيث أصل والدته حينما عقد قرانه الأول من أحد أصول هذه القبيلة، وهو ما يصطلح عليه بالريفية (ثارفيدجين ـ مفردها ذار فريج) غير عقد قرانه الأول من أحد أصول هذه القبيلة نفسها (أعيان القبائل = إمغارن مفردها أمغار) بتهمة الخيانة أثناء اختيار قيادته العليا، وهنا لا نتحدث عن مكونات جيشه الريفي، بل عن انضمام القبائل الأخرى إلى الحرْكات. كان ابن عبد الكريم شديد الذكاء فمنح مراكز القيادة (القواد بشكل متواز ومنصف لعلية القوم من شيوخ وأعيان القبائل التي كانت فيما قبل متناحرة بينها ومعادية بعضها لبعض. وبالتالي لم تستفد وحدها القبائل الجبلية “لأيت وريرت” و“ثيمازغا” من تمثيلية قوادها في منطقة “جبل حمام” (مركز نشأة قبيلة بني ورياغل، وهي مناطق كان يظن قبل الاستعمار احتواءها لمناجم نفيسة) كما لم تكن هذه التحالفات حكرا على قبائل بني وراغل دون غيرها، بل عمت وأضفت نوعا من الاستقرار وبصفة جلية، جميع قبائل الريف الوسطي.
أضف إلى ذلك أن هؤلاء القواد الذين عينهم محمد بن عبد الكريم هم إمغارن نفسم (علية القوم من القبائل وأعيانها) وبذلك سيقومون بقيادة الحرْكات التي تضم رجال القبائل التي كانوا يتزعمونها. خلال أوج قوته سنة 1925، كان يتوفر محمد بن عبد الكريم على نحو 60000 رجلا من الحركاويين، يشكل الريفيون الثلثين منهم (ما يفوق 15000 رجلا من أيث ورياغر، و6000 من تمسمان، و5000 من كل أيث توزين وإجزناين، و2000 من أيث عمارت وإبقوين) في حين كان البقية منهم من رجال صنهاجة سراير وغمارة وجبالة، كانوا يمثلون كلهم، خاصة رجال بني ورياغل، محاربون محنكون أشد حنكة أو اكتسبوا التجربة الحربية خلال المعارك، ولقد تناوبوا على الحرب في جبهاتها الشرقية والغربية ضد الإسبان من جهة، وفي الجهة الوسطى ضد الفرنسيين.
غير أن أعلى درجات رشد التنظيم العسكري لدى عبد الكريم تركز في وحدات جيشه الذي لم يكن يتجاوز 3000 رجلا، وتم تقسيم هذه الوحدات غالب الأمر (ذلك أنه تطلعنا على عدة تحليلات مختلفة في نوعيتها ومضمونهاحول هذا الموضوع) إلى خمس طوابير (فيالق) تضم كل واحدة منها 500 رجلا يتزعم كل فيلق قائد الطابور وينقسم كل فيلق إلى خمس وحدات تضم 100 رجل يتزعمها قائد المئة “رقايذ نمية”. هذه الأخيرة تنقسم بدورها إلى وحدات تضم كل كل منها 50 رجلا، يقودها قائد لخمسين “رقايذ لخمسين”، وتقسيم أخر يتكون من 25 رجلا، يقودها قائد الخمس وعشرون، وأخيرا وحدة تضم 12 رجلا، يقودها قائد الإثنا عشر. ولقد استمد بن عبد الكريم هدا التقسيم العسكري وكذا تعيين القواد من المخزن المغربي الذي استغله كذلك أثناء تكوين حكومته. كانت تتألف الطوابير الثلاثة الأولى من الريفيين في حين تكون الطابور الرابع من مزيج من رجال القبائل الأخرى، بيد أن الطابور الخامس كان يتكون أساسا من جنود الرماية.
كان يحمل قواد الجيش الريفي نفس الشارات التي كانت تحملها راية الجمهورية الريفية والتي كانت تتألف من ألماس أبيض باطنه أحمر اللون ويتخلله هلال أخضر تحت نجمة خضراء سداسية الشكل في لب الألماس نفسه. وأخيرا تألفت الحراسة الشخصية لابن عبد الكريم، أو ما يصطلح عليه بالحُفاظ، من خمسين رجلا وينحدرون من قبيلة بني ورياغل ويتزعمهم قائد الخمسين. فإن مقرها الدائم هو بلدة أجدير، حيث مركز الهيأة العليا العامة لقوات بن عبد الكريم وإحدى سجونه الثلاثة. أما باقي السجون فتركزت بأيث قمرة في السهول الوسطى لبني ورياغل وفي تماسينت في مركز المنطقة القبلية لبني ورياغل.
يجب الإشارة هنا أيضا إلى أن إحداث السجون كانت من بين إسهامات بن عبد الكريم الهامة، إذ لم يعرف وجودها في الريف قبل ذلك، ولقد سال المداد كثيرا حول موضوع تعذيب السجناء الإسبان من قبل القائد الريفي في سجونه بأيث قمرة وأجدير، غير أن أغلب هذه الكتابات تميزت بالمبالغة أساسا. فمعاملته كانت أشد قساوة مع أسراه من سكان الريف ومناطق جبالة في سجن تماسينت (نذكر على سبيل المثال الشريف الشهير والقرصان سابقا مولاي أحمد الريسوني من قبيلة بني عروس بمناطق جبالة) والذين اتهموا بخيانة قضيته ومناهضتها، ذلك أن اغلبهم ماتوا جوعا، لا أقل ولا أكثر.
ولقد حاول بن عبد الكريم القيام بتعريب واسلمة نظامه السياسي الريفي وقانونه العرفي. وبالتالي شدد على أهمية النظام القانوني للمذهب المالكي وأرسل العديد من قضاته الذين كانوا قلة قبل ذلك في الريف، لتلقين دروس الشريعة في كل الأسواق القبلية، وكان يرافق كل قاض في مهمته عدلين أو موثقين عموميين. كما أصبحت الأحكام التي كان يقرها قبل ذلك إمغارن (أعيان القبائل) في أغراو (التجمعات القبلية لآيث حاربيين) من صلاحيات مخزن ابن عبد الكريم(أحكام نميس سي عبد كريم) أو يتم النطق بها طبقا لأحكام نصوص الشريعة. وبالتالي خلال أواسط عام 1926، إبان الاحتلال الفعلي لمناطق الريف من قبل القوات الإسبانية، كانت قد اندثرت القاعدة وكذا قانون العرف في المنطقة، خصوصا أوجهها المتعلقة بالأحكام والعقوبات. ولقد اختلفت هذه الوضعية عن مثيلاتها في المناطق الأمازيغية الأخرى وسط وجنوب المغرب، حيث حاول الفرنسيون الإبقاء والحفاظ على القانون العرفي بالمنطقة عدا الأحكام الجنائية التي كانت من اختصاص المحاكم الفرنسية. ويكتسي ما سلف ذكره أهمية بالغة، ذلك أن إصلاحات بن عبد الكريم كانت هي العائق في تطبيق الفرنسيين كالظهير البربري المعلوم سنة 1930 في مناطق الريف على الرغم من أن هذا الأمر كان بإمكانه أن يمثل ورقة مربحة بالنسبة لعدد هام من المستعمرين الإسبان.
لم تقف إصلاحات بن عبد الكريم عند هذا فحسب ، بل على العكس من ذلك، وبطريقة أو بأخرى، عمت هذه الإصلاحات مجمل المؤسسات الاجتماعية الريفية وفي كل مراحل حياتها الاجتماعية والطقوسية. فقرر أنه يجب قطعيا على كل ريفي أداء الصلوات الخمس، وهو أمر لم يكن جاريا به العمل في العديد من القبائل الريفية. فخلال دراستنا الميدانية في قبيلة بني عمارت اعترف لنا العديد من سكان المنطقة أنه قبل مجيء بن عبد الكريم كانت صلاة رجال القبائل تقريبا منعدمة، أما النساء فلم يصلين على وجه الإطلاق. ولقد جرت العادة أن يكون بنو ورياغل شديدي العناد لقبول ذلك. وكأي رجل إصلاح، وجب على بن عبد الكريم إعطاء القدوة وتنظيم بيته قبل أن يدعو جيرانه لذلك. وبالتالي سهر وبشكل صارم على أداء الصلوات الخمس من لدن سكان قبيلته. فمثلا، وجب على كل من لم يصل ضلاة من الصلوات الخمس الذهاب إلى جبهة المعركة خلال مدة تتراوح بين 15 و20 يوما، أما بالنسبة للنساء من ذويه، أمرهن الرئيس بأداء الصلاة، وكل من امتنعت، وجب عليها أداء غرامة تتمثل في دجاجة (الدجاج والبيض والأرانب كانت بمثابة ممتلكات خاصة بنسار الريف). في حين وجب على الطلبة، حفظ القرآن في الجوامع، السهر على تلاوة القرآن وتلقينه لأبناء القبيلة.
(طبقا لقانون اجزناين الصادر في يونيو – يوليوز 1926، إبان أوج حكم بن عبد الكريم، “اجزناية” قبيلة تحد جنوبا بقبيلة بني ورياغل) ينجم عنه عقوبة سجن لمدة أسبوع وأداء الغرامة المعنية نفسها. نفس العقوبة كان ينطق بها في حق كل من أكل قطيعة نبات أو خضر أو فواكه جيرانه. كما أمر ابن عبد الكريم رجال القبائل بتقطيع الدوابة القبلية (كانت ترمز إلى انتماء صاحبها لقبيلة معينة) في حين تم تخفيض مدة الاحتفال بطقوس الزواج الريفي من سبعة أيام إلى ثلاثة. كما تم منع الرجال من المشي حافيي الأقدام وبالتالي وجب عليهم اقتناء النعال والبلاغي وتقصير اللحي، ومنعوا من ترديد الأمداح الدينية في الخنادق الحربية (لا إله إلا الله) بل وجب التغني بها في مواضعها، ويعني بذلك المساجد. وقرر غرامات مالية صارمة في حق كل من ضبط وهو يدخن الكيف، وكان لذلك وقعا شديدا خصوصا على سكان قبائل غمارة وجبالة أكثر مما كان على سكان قبائل الريف.وتظهر لنا معاملة ابن عبد الكريم لعدوه الجبلي الريسوني، الذي قامت قوات ابن عبد الكريم بإلقاء القبض عليه في عقر داره ببني عروس عام 1924 والذي توفي في سجن ثماسينت يوم 3 أبريل من العام الموالي، مثلا بارزا وجليا على علاقة ابن عبد الكريم بالشرفاء وإمرابظن، وخاصة بالزوايا الصوفية (الطرقية)، حيث كان ينظر إليهم بنظرة عدم الثقة جملة وتفصيلا. عرف ابن عبد الكريم بكونه رجلا تقيا ومؤمنا أشد الإيمان، غير أنه لم يخف أبدا عدوانيته للطوائف والزوايا الدينية. وعلى أية حال، فمن المعلوم أنه في مرحلة سابقة لم يكن يحتضن الريف عددا مهما من المنتمين إلى هذه الطوائف اللدينية. إلا أنه خلال أبحاثنا الميدانية في أواسط عام 1950، استنتجنا وجود أقلية لا يستههان بها من سكان الريف المتوسطة أعمارهم والشيوخ منهم ينتمون إلى زاوية درقاوة وإما إلى زاوية عليوة. لعبت الأولى دورا مهما في مغرب القرن 19، في حين يعود أصل زاوية عليوة إلى منطقة الجزائر الغربية والتي تشبع بآرائها العمال الريفيون الذين هاجروا للعمل في مزارع المحتلين الفرنسيين.وسيعملون على نشر أفكارها إثر عودتهم إلى موطنهم الأصلي الريف، ويعود أصل هذه الظاهرة إلى إلى القرن الفارط. أما فيما يخص باقي مناطق قبيلة أيت عطا وأمازيغي جنوب المغرب عما هو الحال بالنسبة لمناطق الريف.
فلنعد من جديد إلى موضوعنا، لقد تمكن ابن عبد الكريم من الاستفادة من مؤازرة ودعم وتحالف هذه الزوايا خاصة عندما هدد بخنق كل من ناهضه وعارضه من زاوية درقاوة بسبحتهم نفسها. أما الجزية التي كانت تؤدى أمام بيت المال في صناديق أجدير، فكانت تستغل لصالح أغراضه الحربية. ومن المعلوم أيضا أن ابن عبد الكريم استغل موارد الحبوس التي تؤدى للمساجد لصالح نفقات ومصاريف حكومته، وهو أمر لم يسبق له مثيل. أما الموارد الأساسية لخزينته، فكانت ترتكز أساسا على التعويضات المالية التي كان يؤديها الإسبان في أوائل عام1923 مقابل إطلاق سراح أسرى ابن عبد الكريم الإسبانيين خلال انتصاراته الأولى سنة 1921. غير أنه تمكن من مضاعفة موارده عن طريق ضريبة الترتيب الخاصة بالأملاك والمواشي وعن طريق سن غرامات صارمة اصطلح عليها بالحق، كان يقرها قبل ذلك إمغارن فيما يخص جرائم الاغتيال والقتل بالأسواق والتي أصبح يفرضها ابن عبد الكريم على القبائل المعادية والمناهضة له. والمثال الجلي على ذلك، منطقة جبالة على وجه الخصوص، حيث انتفض سكان قبيلة أخماس في الشاون ضد ابن عبد الكريم سنة 1924، وكان رده عليها صارما. كما نذكر انتفاضة سكان بني زروال الذين رفضوا الانضمام إلى مقاومته عام 1925، عندما ارتكب إحدى أفضع أخطائه الاستراتيجية والتاكتيكية حينما اقتحم القائد الريفي أواسط أبريل من نفس السنة المنطقة التابعة للاحتلال الفرنسي وتسبب في استسلامه بعد ذلك بثلاثة أشهر للقوات الفرنسية يوم 27 مايو 1926، بعد مقاومات بطولية، خاصة خاصة مقاومة ذويه من بني ورياغل.
غير أن أهم إنجاز حققه ابن عبد الكريم يتمثل في إصلاحاته الفعلية لمكونات المجتمع الريفي بواسطة تعريب مؤسساته الاجتماعية واستبدال يكاد يكون كليا للقاعدة والقانون العرفي الريفيين بنصوص وقوانين الشريعة، ويرجع الفضل في ذلك كله لإصلاحاته الاجتماعية والقانونية. إن مسار بن عبد الكريم اللاحق لا يقل أهمية عما سبقه، ذلك أنه قضى 20 سنة بسجن الفرنسيين بجزيرة لارييونيون ليس بعيدا عن جزيرة مدغشقر. إثر ذلك وفي شهر يوليوز من عام 1947، غادر في مصر (بدعوة من الملك فاروق) الباخرة الفرنسية التي كانت تقله هو وعائلته اتجاه الأراضي الفرنسية حيث كانت تنتظره الإقامة القسرية. وعرف في القاهرة بالشيخ الاستراتيجي المحنك الذي كان يستقطب اهتمام الوطنيين المغاربة والمغاربيين الشباب منهم، إلى أن غادر الحياة في فبراير من عام 1963.نشاطاته في مصر كانت مختلفة عن مثيلاتها خلال وجوده في الريف، حيث ظلت إصلاحاته إبان مرحلة الحرب بين1922 و1952 صامدة خلال الحماية الإسبانية وحتى بعد استقلال المغرب سنة 1956. كما يجب الإشارة إلى أن ابن عبد الكريم لم يعارض الحج تجاه أنوال زعماث بالريفية، وهو ما يعادل مصطلح “الموسم” في مناطقأخرى من المغرب والذي كان يقوم به سكان أيت ورياغر والقبائل المجاورة إلى المكان المقدس المنفتح على السماء لزيارة سيدهم بوجيبار (لم يكن ينتمي هذا الوالي إلى “إمربظن” المحليين، ولهذا الأمر دلالات عميقة وبالغة الأهمية، فالسيد بوجيبار كان مجاهدا من أصل جزائري غير معروف) في أعلى قمة جبل حمام، ويحمل اسم “أذرار نسيذي بوجيبار” على علو 1944 متر، على مقربة من جماعة بومعدن في قبيلة ثيمازغا (على الرغم من هذا الإصلاح لا يوجد بالمنطقة أي منجم معدني). ويحج الريفيون إليها خلال اليوم الذي يسبق العيد الكبير (عيد الأضحى).
يجب الملاحظة هنا أن الحج المتدفق للريفيين لزيارة سيدي بوجيبار سنة 1955 عرف تراجعا ملحوظا وكبيرا بعد نيل الاستقلال، وخلال مرحلة ما بعد الاستعمار، وإذا أردنا استدراج مثال غييلن، سنصل إلى خلاصة القول بأن إسلام الريف كان إسلاما مستمدا من تعاليم الكتاب “القرآن” أكثر من ما هو ظاهرة طائفية مرتكزة على الزوايا والطوائف.
هذا التحول البالغ الأهمية الذي شهده المجتمع الريفي مرده أساسا إنجازات محمد بن عبد الكريم االخطابي رجل إصلاح الريف بامتياز. غير أنه في ما يلي سنلاحظ أن عسو أوباسلام لم يكن رجلا إصلاحيا بل على العكس من ذلك، انفرد بشدة تشبثه بالقانون العرفي لذويه من سكان قبائل آيت عطا.
لا أحد ضاهى من المقاومين ضد الاستعمار الفرنسي وسط وجنوب المغرب وفي المناطق الأمازيغية الأخرى بالأطلس والواحات الصحراوية مقاومة محمد بن عبد الكريم الخطابي.
ولقد تميزت المقاومة في هذه المناطق بطول مدتها وبشدة عنفها. وتم الإعلان عنها باسم الإسلام. إلا أنها لم تكن موحدة في صفوفها، بل كانت عبارة عن انتفاضات معلنة (وفيما بعد مخمدة) من طرف كل قبيلة على حدة. وكل زعمائها، لا يهمنا أكانوا إيمغارن أو شرفاء ينحدرون من شجرة الرسول، كان يطبعهم بشكل لافت للنظر الطابع التقليدي الصرف.
فإذا كنا نرى بأن محمد بن عبد الكريم، ورغم إصلاحاته الدينية حافظ على بعض المفاهيم التقليدية للسياسة الريفية والمغربية، فغن عسو أوبسلام من قبيلة ىيت عطا، كان يمثل تشخيصا جليا للمقاومة الإسلامية المحافظة والقبلية في مجمل معانيها.
يجب الإشارة هنا إلى أن مظاهر الإختلاف بين عبد الكريم وعسو أوبسلام، وإن كانا يتفقان ويلتقيان في موضوع المقاومة ذات الطابع التقليدي في كل تجلياتها ودون أن ننسى بأن إنجازاتهما فاقت وتجاوزت وفندت مل الانتقادات، فإنها تتمثل في نظرة كل منهما للقانون العرفي.
فكما أشرنا سابقا، أراد بن عبد الكريم مستبدلا ومعوضا تعويضا مطلقا بقوانين الشريعة ولم يعتبره أبدا مكملا لهذه الأخيرة، في حين كان عسو أوبسلام الذي يجهل بالبتة اللغة العربية ولا يتحدث إلا لغته الأمازيغية خلافا لابن عبد الكريم شديد التشبث بالإبقاء والحفاظ التام بقانون عرف آيت عطا.
وسنقوم الآن بعرض تلخيص لبحث كنا قد أنجزناه حول مسيرة عسو أوبسلام، ينتمي عسو أوسلام إلى دائرة إيليمشان بقبيلة آيت عطا لآيت واحليم. ولد سنة 1890 بجماعة تاغيا نيليمشان جنوب شرق تينغير على الواجهة الشمالية الشرقية لجبل صاغرو، حينما قام الحاج التهامي الكلاوي، بدافع ومقابل مبالغ مالية كان يؤديها له الماريشال ليوطي، أول مقيم عام للسلطات الفرنسية بالرباط، باقتحام المناطق الأطلسية والمطلة على الصحراء شرق ورزازات، وقف عسو أوبسلام ضده ولم يكن الدافع إلى ذلك كون الرجل القوي آنذاك هو باشا مراكش الكلاوي أجير الفرنسيين فحسب، ولكن أيضا لسواد بشرته. منذ ذلك الآن تزعم عسو أوبسلام ذويه من قبيلة آيت عطا المناهضين للكلاوي في حين قاد موحاداش أو الحاج فاسكا من دائرة آيت بوكنيفين، من قبيلة واحليم أيضا رجال آيت عطا المتحالفين مع الكلاوي.
ونستنتج من هذا أنه منذ بداية ونشأة مقاومتها في السهل الجنوبي لجبال الأطلس المتوسط سنة 1919و1920، لم تعرف أيت عطا، وهي قبيلة كبرى تنقسم مناطقها حاليا إلى ثلاثة أقاليم مغربية، أزيلال وورززات والراشيدية (قصر السوق سابقا)، توحيدا لصفوفها أثناء المقاومة، بل كانت منقسمة منذ بدايتها. غير أن عسو أوباسلام ورجاله من أهل القبيلة، تابعوا المقاومة لمدة أربعة عشر سنة وهي مقاومة عرفت نهايتها إبان لمعركة البطولية بوكافر في ساحة تعج فيها الصخور البرية على علو 1600 متر في صاغرو الشرقي. ودامت انطلاقا من أواخر أبريل إلى حدود أواسط شهر مارس من عام 1933. غير أن القوات الفرنسية، وبدعم من رجال أيت عطا التابعين لموحا داش والمتحالفين مع الكلاوي، تمكنوا من تحقيق الانتصار بعد مرور 15 يوما من المعارك الضارية المستمرة والغير المنقطعة، ورأى عسو أوباسلام أنه حان وقت استسلامه، بعدما هزمه إخوانه من أيت عطا في تحالف مع الفرنسيين أكثر مما هزمه الفرنسيون أنفسهم. وكذلك كان الأمر، فاعترفت الأطراف المشاركة في هذه المعارك بشجاعة عسو أوباسلام وببطوليته، نذكر على وجه الخصوص تقدير الجنيرال الفرنسي هايور له.كان استسلام عسو أوباسلام استسلاما مفاوضا، حيث اشترط عليهم ثلاثة شروط قبلها الفرنسيون قاطبة:الحفاظ على القانون العرفي لأيت عطا، وعدم السماح للكلاوي ببسط نفوذه على أراضي أيت عطا، وأخيرا شرط غريب أمره: منع الغناء والرقص على نساء إيست عطا (مؤنث أيت عطا) خلال حفلات وطقوس الزواج، أو على الأقل في منطقة صاغرو حيث كان نفوذه.
وفيما يخص هذا الشرط الأخير، قد نخلص إلى وقع وتأثير إصلاحات ابن عبد الكريم، غير أنه على الرغم من أن بني أيت عطا لم ينتسبوا ولا ينتسبون لأية طائفة من الطوائف الدينية، إلا أن عسو أوباسلام إثر نهاية الحرب اعتنق الزاوية الدرقاوية، وهي طائفة عرفت بتشددها، إذ تحرم الغناء والرقص وتناول القهوة.
إن إيمان عسو أوبسلام ونسكه الإسلامي جعله يسافر بعد الاستقلال عام 1956 إلى مكة لأداء فريضة الحج تاركا خلفه ابنه القائد علي أو الحاج عسو أوبسلام قبل أن يغادر الحياة عام 1960 (كان ابن عسو أوباسلام صديقنا ودعما لنا في الأبحاث الميدانية التي قمنا بها آنذاك).
وبالتالي أصبح عسو أوباسلام أحد أبناء أيت عطا القلائل الذين حجوا إلى مكة (خلافا لأبناء أيت ورياغر وباقي القبائل الريفية الذين كانوا يحجون بانتظام لأداء فريضة الحج) ومرد ذلك أن أغلب القبائل الأمازيغية يعتقدون بأن الرسول محمد لم يتم دفنه بالمدينة المنورة في شبه الجزيرة العربية، بل في قمة جبل الأزوكي، على علو 3690مترا في جبال الأطلس المتوسط، وبالتالي يدعون إلى ضرورة الحج صوب هذه المنطقة عوض مكة، وذلك في اليوم الموالي مباشرة لعيد الأضحى في آخر شهر من شهور الحول الإسلامي.
وسنعمد حاليا إلى سرد الأسطورة المحلية التي تدعم هذا الاعتقاد نظرا لأهميتها البالغة، تروي هذه الأسطورة لأسباب لا أحد يعلمها، بأن الرسول توفي في أراضي القبيلة الأطلسية الصغيرة آيت بوكماز، وتم حمله على ظهر ناقة بيضاء اللون نحو القبر الذي تم حفره في ظروف عجائبية في منحدر أورجيا ن أوزوركي. غير أنه إبان وصول الموكب إلى مكان القبر، شرع الرجال في العويل والصياح قصد إبعاد سرب من الطيور قدم ليقتات من الزرع وتسبب ذلك في هلع الناقة فهرعت بحثا عن بلاد يؤدي من أجلها الرجال ثمنا باهضا لرؤية قبر الرسول، وبالتالي فرت الناقة صوب الحجاز تاركة بذلك تل أوزوركي يمتزج مع المدينة المنورة في الذاكرة الجماعية لسكان المنطقة.يجب أن نشير هنا أيضا إلى أنه خلافا على أيت ورياغر الذين يحجون إلى إلى سيدي بوجيبار خلال اليوم الذي يسبق عيد الأضحى كي يحتفلوا بيوم الأضحية في ديارهم، فإن سكان أيت عطا والنواحي يحجون إلى أزوركي يوم عرفات نفسه، أي في نفس اليوم الذي يحتفل فيه حجاج مكة بعيد الأضحى احتفاء وفق التقاليد والعادات الإسلامية بمناسبة اليوم الذي أرسل الله لإبراهيم كبش الأضحية عندما قدم هذا الأخير التضحية بابنه إسماعيل، ويعتبر عيد الأضحى أحد ركائز الحج في الإسلام وكذلك الشأن بالنسبة لأزوركي حيث يتوافد معظم سكان القبائل المجاورة.
مباشرة بعد استسلامه للسلطات الفرنسية سنة 1933، أصبح عسو أوباسلام عضوا بالمحكمة العرفية لأيت عطا في عاصمتها القبلية إيغرم أمازدار بصاغرو، وهو المكان الذي بويع فيه أمغار (زعيما) على هذه القبيلة البطلة كما جرت به العادة كل سنة قبل إقرار السلام الفرنسي بالمنطقة، وعين بعد ذلك سنة 1939 قائدا فعليا على قبيلة أيت عطا بصاغرو، وهي المهمة التي تولاها حتى آخر أيامه عام 1960. وعلى الرغم من تقواه وإيمانه الشديد بالإسلام، فإن عسو أوباسلام كان ضد أية محاولة استهدفت تطبيق الشرائع الإسلامية بمنطقة أيت عطا، أو تحديدا، ظل معاديا لجميع الظواهر الشريعة المخالفة للقانون العرفي لقبيلته، فمباشرة بعد استقلال المغرب وإبطال الظهير البربري، وهو ظهير دعا إلى الحفاظ على القانون العرفي الأمازيغي الذي شمل وعم أغلب المناطق الناطقة بالأمازيغية التي كانت تحت السيطرة الفرنسية، وقف عسو أوباسلام ضد المفهوم القرآني للإشهاد وعارضه بشدة، فالهدف منه نفي الإدراك لدى أهل أيت عطا، فحسب نظره، ما جدوى الشهود مادام الشخص الذي يقدم على سرقة منزل أو إقامة علاقات جنسية غير شرعية يرتكز على عامل الخلوة أساسا؟ وبعد مغادرة آخر ضابط فرنسي للشؤون المحلية وعائلته صاغرو (رافقهم عسو أوباسلام شخصيا إلى مراكش وورزازات قبل ظهور ما يسمى بوحدات جيش التحرير المغربي) رفع عسو أوباسلام هذه القضية أمام أعلى هيأة وزارة العدل بالرباط، ونهج نفس المنوال فيما يخص استبدال الحنث الجماعي بالقسم الفردي (كان يؤديه المتهم وأقرباؤه قرابة أبويه بضريح الأولياء الصالحين في يوم محدد وبمعية عون مكلف بالقسم) ولقد عرف عسو أوباسلام بمعارضته لذلك معارضة مطلقة إلا أنه لم يفلح في بلوغ مراده ذلك أن السلطات المغربية عممت تطبيق نصوص الشريعة على كل مناطق البلاد، ومباشرة بعد نيل الاستقلال، عندما كانت كلمة “بربر” منبوذة وغير معترف بها من طرف سلطات الرباط، عرف دور القانون العرفي تراجعا واضحا في أوساط المناطق الأمازيغية، وإن كان في بعض الحالات بعد نضال عتيد. أما في منطقة “صاغرو” وتحت إدارة القائد علي (نجل عسو أوباسلام) الذي خلف أباه سنة 1961 واستمر في مهامه إلى حدود إحالته على المعاش عام 1974، ظل القانون العرفي قائما بالمنطقة ودام على خلاف باقي مناطق أيت عطا مدة أطول. بيد أنه يجب الإشارة في هذا الصدد إلى أنه ابتداء من عام 1985 و1986، أعيدت من جديد صلاحيات القانون العرفي وذلك بتعيين مستشارين محليين في القانون العرفي المحلي في جميع إدارات وقرى البلاد سواء من أكانت ناطقة باللغة العربية أو الأمازيغية، وهم مستشارون معترف بهم أمام وزارة الداخلية بالرباط، يدرون دراية بالغة بالقضايا المحلية وهم مستقلون عن سلطات القيادة الإدارية.
وبالتالي عادت القاعدة (حسب الاصطلاح العربي) و“أزرف” (حسب الاصطلاح الأمازيغي) إلى ميدان عملها في القبائل وإن كان ذلك بشكل فرعي ولم يتم تعميمه في مجمل مناطق البلاد.
قام عسو أوباسلام بالحفاظ أيضا على الأرومة العائلية لأيت عطا التي تنحدر من وليها بأيت مولاي عبد الله بن احساين الكائن موطنه برباط الولي مولاي عبد الله بن احساين نفسه، ولقد خلفه في مساره هذا نجله القائد علي، إذ صرح لنا عام 1964 بأن والده كان يقول له بأن أيت عطا دون قانونهم العرفي وكأنهم يسيرون في متاهات الضباب المظلم. ولقد ظل القائد علي يؤكد ويشدد على هذه الأطروحة إلى أن وافته المنية عام 1992.
عن مجلة أسس من علم الإنسان (فوندامنتوس ذي أنتروبولوخيا)