من أجل تصحيح جذري لتاريخ المغرب انسجاما مع نتائج الاكتشافات الاركيولوجية العلمية الجديدة

بقلم: أنغير بويكر

تتوالى الاكتشافات العلمية الاثرية بالمغرب وتحمل معها العديد من المعطيات العلمية المذهلة التي تعيد صياغة تاريخ المنطقة الشمال- افريقية بشكل يجعل مجموعة كبيرة من “المسلمات” والمعطيات التاريخية التي تم تلقينها للأجيال تلو الأجيال في دروس التاريخ  خاطئة  ومتجاوزة تماما  بل للدقة نقول انها  مؤدلجة ، مضللة و مجانبة بشكل كامل  للحقائق  العلمية التاريخية كما كشفت  عن  بعض مظاهرها الجنينية الأبحاث الاركيولوجية الأخيرة  المسلحة بالعلم والتقنية الفائقة . في ما مضى  ، تم تلقيننا في الدرس التاريخي المغربي ان الامازيغ جاؤوا  من اليمن والحبشة ولم يكونوا قط  من الشعوب الاصلية المستقرة بالشمال الافريقي وان الانسان المغربي المغاربي الافريقي سكن الكهوف والمغارات ولم يعرف قط الحضارة ولا ساهم فيها وانتظر الحضارات  والشعوب الأخرى لتنتشله من براثن الجهل والتخلف والتوحش وأصبحت هذه اللازمة المكررة في دروس التاريخ اول ما يصطدم به الانسان المغربي الأصيل الذي يجبر على التنكر لاصله وهويته مما عزز بشكل كبير  لديه الشعور الدوني الذي يحس به الشعب المغربي قاطبة عندما يرى لغته وتاريخه مطموسين مهمشين مقصيين من الكتب المدرسية باستثناء  دروس قليلة ونتف متفرقة عن الممالك الامازيغية مبثوثة في بعض المقررات الدراسية في الآونة الأخيرة .

بدون ادنى شك كان التاريخ القديم للمغرب منسيا تماما ومكتوبا من طرف الاخرين، اذ لم يسبق للامازيغ ان كتبوا تاريخهم باقلام كتابهم ومؤرخيهم ، وحتى ان كتب فلم يصلنا الى اليوم نتيجة الحرق والاتلاف الذي تعرضت له مكتبات و خزانات شخصيات امازيغية في التاريخ   وهذا ما يفسر خروج تاريخهم عن التاريخ  نفسه رغم ان الامازيغ وبشهادة كبار المؤرخين  المنصفين يشهدون  للتاريخ ان للامازيغ حضارة عريقة ، لها تاثيراتها الكبرى على كل الحضارات الأخرى ، يكفي ان نطلع على ما كتبه المؤرخ العراقي خزعل الماجدي عن عظمة الحضارة الامازيغية  لنستشف المكانة المتميزة للحضارة الامازيغية في بناء الحضارة الإنسانية ، وبالفعل فقد استطاع مؤرخين غربيين أمثال كابريل كامبس واخرين ،فضح  الأيديولوجية الاقصائية سواءا المشرقية او الاستشراقية الغربية التي ساهمتا  مساهمة  حاسمة وكبيرة في طمس هوية وحضارة شعوب شمال افريقيا  اذ اختزلت  الايديلوجية المشرقية التاريخ الشمال الافريقي بشكل تعسفي اختزالي بما سمي بالفتوحات الإسلامية و بالدعوة الإسلامية وبناءا على ذلك الاختزال القسري التنميطي تم اختصار  تاريخ المغرب في 12 قرن أي منذ الدولة الادريسية  وتهميش بل القفز على ما قبله  فيما  دارس تاريخ الممالك الامازيغية قبل  الادارسة وبعدها بقليل لابد ان يتطرق على الأقل  لمملكة مغربية قائمة اسمها برغواطة وتعترضه في مجال بحثه شخصيات تاريخية مسكوت عنها مثل ميسرة المذغري .

منذ سنوات قليلة وتحديدا منذ سنة2016 تم تعظيد الاركيولوجيا العالمية  بمختبرات علمية دقيقة واليات التنقيب والبحث التي  شكلت فتحا مبينا في البحث العلمي مما أدى الى ظهور نتائج علمية  باهرة تؤكد على ضرورة تصحيح تاريخ المغرب بشكل يجعله منسجم مع الحقائق العلمية المكتشفة ، توج هذا العمل البحثي المضني باكتشاف  جمجمة اقدم انسان عاقل  بجبل ايغود  قرب اليوسوفية بالمغرب  ، والتحاليل المخبرية تؤكد على ان هذا الانسان عاش حوالي 315 الف سنة من الان  بعدما كان اقدم انسان عثر عليه  عنده حوالي 200 الف سنة بشرق القارة الافريقية قبل ذلك ، هذا الاكتشاف الاثري يؤكد  بما لا يدع مجالا للشك على ان التواجد البشري بالمغرب موغل في القدم وان الاستقرار البشري  بالمغرب ليس طارئا بل ان المغرب هو مهد البشرية و منطقة انتقال لعدد من الاقوام ومصدر عدد من الهجرات البشرية التي صححت المتداول تاريخيا على ان المغاربة انتقلوا من مناطق أخرى في العالم الى افريقيا والعكس هو الصحيح اليوم وفق اكتشافات  موقع طوما 1 بالدارالبيضاء حيث تم اكتشاف اقدم اثر للثقافة الاشولية بافريقيا الشمالية برمتها الذي يتجاوز تاريخه مليون و300 الف سنة ، بالفعل  فقد عززت  الدراسات الاثرية والاكتشافات العلمية الكبرى التي قادها علماء وخبراء مغاربة مشهود لهم بالكفاءة العلمية على الصعيد العالمي وعلى راسهم  الدكتور المتمكن يوسف بوكبوط و رفاقه في المعهد الوطني للاثار بالمغرب بتنسيق وشراكة مع فرق علمية متخصصة من دول أخرى كالانجليز والسويديين و الايطاليين والفرنسيين.. . هذه الطفرة العلمية بابحاث جديدة مؤسسة لفهم جديد لتاريخ المغرب وشمال افريقيا بشكل عام  رغم ضعف الإمكانيات المادية المرصودة للبحث الاثري مقارنة بدول أخرى ورغم قلة عدد الخبراء المغاربة المتخصصين في الاركيولوجيا  لكن هذه الاكراهات لم تؤثر على إصرار العلماء المغاربة على اسكتناه  الحضارة المغربية و اعادة تشريحها بعدة تجريبية وعلمية تعيد قراءة وكتابة تاريخ بلادنا بايادي مغربية وباهداف علمية صرفة ، هذه الاكتشافات الاثرية المتتالية بالمغرب واخرها في فبراير 2025 م حيث تمكن فريق علمي مغربي بقيادة الدكتور يوسف بوكبوط من اكتشاف اقدم قرية ما قبل تاريخية من العصر البرونزي عن طريق استثمار معطيات تتعلق باكتشاف فخار و أدوات الزراعة في منطقة كشكوش -ظهر المودن – قرب واد لاو بشمال المغرب  مما يعني ان النظرية القائلة بان المغرب القديم لم يتطور الا بوصول الفنيقيين امر خاطئ علمي و متهافت الى حد كبير ، اذ ان الدراسات الاركيولوجية الحديثة اثبتت بشكل علمي ان لا تواجد فنيقي داخل المغرب اذ لا مقابر لهم ولا ادلة ملموسة  تؤكد استيطانهم  بمناطق المغرب وان ما كان يدرس في التاريخ من قبيل ان الليكسوس -العرائش اليوم- مدينة بناها الفنيقيون  عاري عن الصحة تماما اذ ان الانسان المغربي الامازيغي هو  بانيها و معمرها كما قام بانشاء مركبات زراعية وتاسيس حضارةعريقة تعاملت بندية مع الحضارات الأخرى.

هذه الاكتشافات العلمية المتوالية التي تصنف المغرب برمته تراثا امميا غنيا تسائل سياساتنا العمومية المتعلقة بالتراث المادي واللامادي وضرورة مضاعفة الجهود من اجل استثمار هذا الموروث الثقافي والحضاري لما يعود بالخير العميم والنفع الكبير على المغرب والمغاربة وعموم الافارقة  ، صحيح ان المغرب سن قوانين مهمة وإيجابية في مجال المحافظة على  التراث  الثقافي المغربي واخرها القانون 33.22 الذي صدر في فبراير 2025م  والذي يشكل لبنة أساسية من لبنات ترسيخ سياسة عمومية مندمجة لحماية التراث الثقافي المغربي بشقيه المادي واللامادي  كما ان المغرب صادق على الاتفاقية الدولية لحماية التراث الثقافي والطبيعي لعام 1972 م والاتفاقية الدولية لحماية التراث اللامادي  -اتفاقية باريس 2003 م وانخراط المغرب خصوصا في عهد السيد الوزير الحالي محمد بنسعيد في كل الجهود الدولية الرامية لحماية الماثر التاريخية و المكونات الثراتية  الا ان هناك مجموعة من  العناصر المؤرقة و المثبطة و التي تجعل  سياساتنا العمومية في مجال حماية التراث الثقافي  مطالبة بمسايرة تطورات الفتوحات العلمية في مجال الاكتشافات الاثرية وفي مجال جرد وتصنيف الماثر التاريخية والعناصر التراثية المغربية المتنوعة . ومن هذه العناصر التي يجب ان تحظى بالاولوية لمسايرة المكتسبات العلمية التي حققها المغرب في مجال حفظ وصيانة وتثمين تراثه المادي واللامادي اجد خمس عناصر أساسية :

  • إعادة كتابة تاريخ المغرب باقلام وخبرات مؤرخين مغاربة وادماج المعطيات والاكتشافات الاثرية في كل المستويات الدراسية وإعادة  تصحيح عدد من المغالطات التاريخية التي تتعلق أساسا بالفترة ماقبل الإسلامية التي تعتبر فترة منسية في مختلف المراحل الدراسية المغربية . هذا الورش الكبير لاعادة كتابة تاريخ المغرب حاجة مستعجلة لانه يهم فئات واسعة من المتدرسين الذين يجب ان يتشبعوا بالبحث العلمي و الايمان بنتائجه و الاهتداء لطرائقه لان المستقبل لا يبنى الا بالعلم والتقنية والاعتزاز بالهوية الوطنية وبالتاريخ الوطني المشفوع بوثائق ودراسات تاريخية ملموسة.
  • مضاعفة جهود الدولة والقطاع الخاص في ما يتعلق بتوفير الإمكانيات المادية والتقنية و تكوين خبرات علمية كفؤة للاهتمام بالتنقيب و كشف وجرد وتصنيف التراث المادي واللامادي  مع اشراك الجماعات الترابية و  المجتمع المدني والمؤسسات الجامعية وفتح أبواب الشراكات الدولية في مجال تبادل التجارب و الاستفادة من خبرات الخبراء الدوليين المتخصصين  في مجال التنقيب و التحقيب و الجرد والتصنيف والتثمين  حتى يتحقق هدف جعل التراث مدخلا مهما من مداخل التنمية المستدامة .
  • تشجيع العمل البحثي الجهوي لارشفة التراث المحلي و  اعداد مونوغرافيات جهوية وتعميم متاحف جهوية و انشاء معاهد جهوية لتكوين الاركيولوجيين والتقنيين والمتخصصين في المهن التراثية  والبحثية أي  العمل على لا مركزية أنشطة المعهد الوطني لعلوم الاثار .
  • تشجيع كل المشاريع الرامية الى تاهيل التراث الثقافي المادي و اللامادي سواء التي يباشرها المجتمع المدني او المؤسسات الترابية او الخاصة او المقاولات المتخصصة  والتركيز على عنصراساسي يتعلق باشراك الساكنة المحلية وحثها بشتى الطرق الاعلامية والتواصلية لتملك التراث والاهتمام به والحفاظ عليه ، لان هناك عدد كبير من المواقع الاثرية  مهددة بالاندثار والتخريب لعوامل طبيعية وبشرية والضامن الأساسي للحيلولة دون ذلك هو اشراك الساكنة وتشجيعها على الحفاظ على التراث المحلي الخاص بها .
  • استخدام التكنولوجيا الرقمية واعداد خرائط مفصلة لكل المواقع الاثرية ولمجمل التراث الثقافي المغربي وجعل التراث الثقافي في صلب الاستراتيجيات التنموية عبر تشجيع السياحة الثقافية التي ستمكن شرائح مهمة من المغاربة من دخل قار ونماذج بلدان أوروبية ناجحة في الترويج الثقافي ولمواردها التراثية  غير بعيدة عنا .

لاشك المغرب بقيادة جلالة الملك محمد السادس  حفظه الله تعالى  قد خطى خطوات مهمة في مجال الحفاظ على التراث الثقافي واصبح المغرب من اكبر الدول الافريقية  في تسجيل وتصنيف المواقع الاثرية و التراث المادي واللامادي ضمن التراث العالمي  الا ان  مضاعفة الجهود مسالة ضرورية وملحة من قبل الجميع  ، وخاصة مؤسسات المجتمع المدني التي عليها مهمة  الترافع من اجل  تثمين التراث الثقافي المغربي ليساهم في اشعاع المملكة خارجيا وتحقيق التنميةو المستدامة داخليا

اقرأ أيضا

تابودرارت في يومها الاممي

في يومها العالمي والاممي والكوني،مازالت  تامغارت تابودرارت تعاني من صعوبة الولوج إلى الخدمات الصحية والطبية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *