من التوكل إلى التواكل: ثأنيث الفقر بجبال الأطلس الصغير

امحمد القاضي
بقلم: امحمد القاضي، رئيس جمعية تيويزي للتنمية الإجتماعية لأيت عبد الله

حبا الله العنصر النسوي بعدة مميزات وقدرات تحملها في جيناتها وتكاد تنفرد بها. من بينها حنين الأمومة، الصبر وطاقة التحمل وإمكانيات تجديد الطاقة والقدرة على التعلم وتخزين المعلومات والتكيف مع الواقع. لذا كانت عبر التاريخ القوة المساندة للرجل. فقصص الأنبياء مليئة بدور المرأة في الرسالات السماوية، كدور أم سيدنا موسى في التضحية لإنقاد مولودها من بطش فرعون، وأمنا خديجة التي كانت قائمة بذاتها وأعطت وظيفة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم. ونقف في تاريخنا على فترة زينب النفزاوية في تحفيز الأمير يوسف ابن تاشفين المرابطي، وغيرهن كثير.

كذلك هو حال المرأة القروية عندنا. للنساء في بوادي سوس دور الصدارة في الحفاظ على الهوية الأمازيغية المغربية، وتدوير عجلة الإقتصاد البدوي بالقرى النائية، واستمرار الحياة بجبال الأطلس.

من كان شاهدا على دور المرأة السوسية وحيوية أنشطتها في سبعينيات القرن الماضي، ويقف اليوم على ما آلت إليه احوالها يصاب بالقرف، والغبن، ويلوم غدر الزمان، وقد يدعو بجزاء من كان السبب.

المرأة في جل بوادي المغرب، خاصة الفتاة بجبال الأطلس الصغير، كانت تلعب عدة أدوار محورية طوال السنة. هي العمود الفقري للأسرة الممتدة وتعتمد عليها كل أنشطة البادية، سواء وسط الحقول أو داخل المنازل. كائن نشيط، يتكلف بكل الأعمال الموسمية من حرث، وحصد للمحصول، وزرع للأشحار، وحطب، وجلب للماء الشروب، وتنظيم سقي مزرعة الخضر المعيشية والتسويقية، وقطف ثمار الأشجار وإعدادها للتسويق، وتربية الماشية والدواجن، وتحضير مشتقات الحليب وغيره؛ إضافة للإعتناء بكل الأشغال المنزلية الشاقة، كما تتحكم في إقتصاد البيت وتمتص الأزمات بحكمتها. هذه الحيوية وتنظيم جدول الأعمال نعمة وقدرة جينية ربانية. ومن هنا نفهم تسمية المرأة في سوس ب “تمغارت” كدليل على روحها القيادية والقتالية، في مقابل شيخ القبيلة الذي يدعى “أمغار”.

الجميل في الأمر، أنها رغم كل هذه المهام الصعبة والتعب اليومي تستطيع الحفاظ على الرشاقة، وتوفير زمن للفرجة، للسمر والغناء وممارسة فن الرقص ونظم الشعر. الحيوية والفرجة من طباع العنصر الأمازيغي. ألم يقل أحد قادة الرومان الذين حاربوا الأمازيغ: “عجبت لقوم يحاربون بالنهار، ويرقصون بالليل.” وسبق أن شبه أحد زائري منطقة سوس نساء البلدة (مزاحا) بالثلاجة، لا تتوقف عن الإشتغال، وتوقفها يعني فساد الحياة داخل الخلية الأسرية، كفساد الأطعمة المخزنة بالثلاجة!

على أي، بالثلاجة شبهت أم بالمصباح (ثريا كما قال أحدهم)، فهي مخلوق مبارك تستحق أن نقف ونوفيها التبجيلا، والتقدير والإحترام على تربية أجيال على أخلاق العزة والكرامة، والكد والمثابرة. والحفاظ على تقاليد وعادات المنطقة المتوارثة، بعيدا عن إحتفالية مارس المستهلكة. للأسف نساء البوادي لم ينلن حظهن من التكريمات عند ظهور تقليد 8 مارس وورود الإحتفالية عبر الإعلام والمواقع الرسمية.

هذا حال النساء الأيام المزدهرة بعصر التوكل. لكن للطبيعة رأي آخر، إنقلبت الأزمنة وسحبت موارد الرزق من تحت أرجل النساء جراء عدة عوامل: منها ما هو طبيعي كشح التساقطات، وتوالي سنوات الجفاف، ونذرة المياه الجوفية. كما أن التحولات المجتمعية أرغمت الأسر على الهجرة الإضطرارية نحو المدن، وأفرغت البوادي من الكتلة السكنية المستقرة. وهناك عوامل بشرية ومؤسساتية، وهذه هي الأهم.

بعد تغير الأحوال، وجدت النسوة أنفسهن محاصرن في فخ مفترق الطرق، بين التمسك بالبنية الإنتاجية التقليدية للمجتمع القروي، والتأقلم مع متطلبات ومتغيرات الحياة الحديثة. فلا شح الطبيعة سمحت بإستمرار آليات العمل الموروثة من جهة؛ ولا هن إستفدن من التمدرس والتأهيل لتجاوز المرحلة.
عانت المنطقة لعقود، عكس باقي الجهات، من ضعف حملات التوعية وتهميش الإهتمام بساكنة أدرار، فأصبحت المرأة السوسية ضحية تكالب عوامل خارجة عن إرادتها.

في أواسط التسعينات، بدأت الريادة النسائية تتدهورت في أعالي الجبال، إذ تضاءل دور المرأة في تحريك الدورة الإقتصادية المحلية، وتقلصت مشاركتها وتحولت من فاعلة منتجة، لمستهلكة لمواد السوق الأسبوعي، ومترقبة لحوالات الأهل بالحواضر، وزيارات الأحباب وإكراميات وإحسان ذوي القربى، والقفف الرمضانية التضامنية. بعبارة أخرى فرضت عليها الظروف التواكل غير راضية. وأضحى الفقر بجبال الأطلس يصرف بصيغة الؤنت، لدرجة سئمت الفتيات وفقدن رغبة المشاركة في رقصة أحواش العفوية، ولم يعد لصناعة الفرجة طعم.

فلو لا روح الكفاف والعفاف والقناعة، ومؤهلات المرأة الفطرية السالفة الذكر، من خاصيات الصبر وقوة التحمل والخصوصيات الثقافية والهوياتية المكتسبة، لما صمدت وظلت مرابطة تقاوم من أجل البقاء والإستمرار في العيش بكرامة خجلا من التسول! ويحسب زائر المنطقة (مول الثلاجة) تخيلا “تمغارت” هناك راضية وسعيدة من كثرة التعفف.

نحن في المجتمع المدني السوسي، وبالخصوص تجربة جمعية تيويزي للتنمية الإجتماعية لأيت عبد الله، نعمل جاهدين لرأب الصدع، وإصلاح ما أفسده الفراغ المؤسساتي في تأطير النسوة، وتمكينهن من آليات جديدة لإنتاج الثروة، وخلق مشاريع صغرى مدرة للدخل، وتوفير وسائل مبتكرة لتحسين ظروف عيش المرأة، وتشجيع العمل المؤطر داخل تعاونيات منتجة ونوادي نسوية مصاحبة، ومشاريع ملائمة وطبيعة المنطقة. لإعادة الإعتبار للمرأة الجبلية المرابطة بعزة وكرامة في الثلث المنسي من الوطن.

وكمثال على هذه المجهودات، مبادرة جمعية تيويزي لتعميم مشروع تربية الدواجن كمصدر تغذية ومورد رزق عل الفئة الهشة من النساء الراغبات في إحياء الحيوية وتبني أنشطة مدرة لدخل متواضع وقار.

ختاما، المنطقة بحاجة لتكثيف الجهود لوضع بنيات تنمية قروية نسوية لتدارك الخصاص الذي يعاني منه أدرار. كما أن البلدة بحاجة لباحثين إجتماعيين يرصدون ويوثقون هذه التحولات بين الأمس واليوم، كي لا نقص على الناشئة الفرق بين الأسطورة والواقع.

شاهد أيضاً

«مهند القاطع» عروبة الأمازيغ / الكُرد… قدر أم خيار ؟!

يتسائل مهند القاطع، ثم يجيب على نفسه في مكان أخر ( الهوية لأي شعب ليست …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *