من الفرح الفردي إلى الاحتفاء الجماعي

بقلم: سعيد بنيس

يمكن التمييز فيما يتعلق بلحظات الفرح بين لحظات فرح فردية ولحظات فرح جماعية. فالأولى تدخل في إطار خصوصي يرتبط بميولات الفرد وتمثلاته الشخصية حول الفرح أما لحظات الفرح الجماعية فهي أزمنة مجتمعية تنهل من التمثلات المشتركة التي تحيل أساسا على عناصر الهوية والانتماء، فتصير الإنجازات الرياضية للفريق الوطني لكرة القدم للذكور والإناث مثل ما عشناه مع مونديال قطر أو برونزية الألعاب الأولمبية أو كأس إفريقيا للمحليين أو كأس إفريقيا لأقل من 23 سنة أو كأس إفريقيا لأقل من 17 سنة أو إنجازات الفوتسال ( كأس القارات وكأس إفريقيا وكأس العرب) وما نعيشه حاليا مع مونديال الشيلي 2025 إنجازات للأفراد والجماعات فتتحول لحظات الفرح من فضاء خصوصي مغلق إلى فضاء جماعي منفتح .

لقد مس هذا الانتقال من الخصوصي إلى الجماعي جميع فئات المجتمع، فإذا كانت لعبة كرة القدم سابقا لعبة ذات منحى ذكوري وبمثابة تعويض وتنفيس للضغوطات اليومية، ففي الراهن المغربي ومع جميع الإنجازات ولا سيما إنجاز مونديال قطرأضحت اللعبة كذلك ذات تشكل أنثوي يساعد النساء والفتيات على تجاوز ضغوطات العمل والدراسة والأشغال المنزلية. وتباعا صارت لحظات الفرح الجماعية مشتركة بين الرجال والنساء في الفضاء العمومي.

وتباعا برزت كذلك مواقع جديدة للفرح الجماعي فضلا عن المقاهي مثل القاعات وبعض الفضاءات التي يتم تهييئها خصيصا لمتابعة مباريات الفريق الوطني وهي فضاءات ليست حصرا على الرجال. فتحولت المقاهي وبعض الساحات العمومية وبعض القاعات إلى فضاءات للحظات فرح جماعي وكذلك عائلي. وفي المقابل جرى التخلي على البيوت والمنازل كفضاءات للفرح الجماعي وكمواقع لتجاوز الضغوطات اليومية.

لقد صارت ظاهرة الفرح الجماعي ظاهرة عالمية، وليست حكرا على قارة بعينها أو بلد بعينه. إن هذا التحول يمكن فهمه من خلال استقراء النمط الجديد للعيش المشترك والرابط الاجتماعي داخل المجتمعات حيث ينحو منحى الفردانية والانعزالية فتصير انتصارات كرة القدم كنوع من أنواع إحياء عناصر العيش المشترك ومقومات الانتماء، فتتوازى الإنجازات الرياضية مع الانتصارات الهوياتية. ففي الحالة المغربية، يمكن اعتبار إنجازات المنتخب الوطني في مونديال قطر بمثابة إحياء لمشاعر « تَمَغْرِبِيتْ » كوعاء حضاري وتاريخي وثقافي وإنساني يحتضن الجميع على اختلافاتهم الترابية واللغوية والثقافية. ويحتضن كذلك ثنائية مغاربة الداخل ومغاربة الخارج.

كما أن فترة غياب المباريات بعد انتهاء مونديال 2022 لم تؤثر على هذا الإحساس الجماعي بالفرح بالنظر إلى أن الدخول في العهد الرقمي وطفرة التفاعلات والمواقع الاجتماعية أدى إلى تخليد الإنجازات واستمراريتها في الزمن الافتراضي وصارت الخواريزمات والتطبيقات الرقمية تلعب دور الذاكرة الجماعية من خلال تذكير رواد المواقع الاجتماعية بالأحداث التي عاشوها وكانوا شاهدين عليها. لهذا يمكن استنتاج أنه ليس هناك شعور مناسباتي بل فقط هناك انتظار وترقب لإنجازات أخرى تعيد زمن الفرح وتكون جسرا لمشاعر الانتماء وتجسيدا لروح تَمَغْرِبِيتْ.

من هذه الزاوية يمكن الإقرار بأن هناك حاجة للفرح وهي حاجة مجتمعية مثلها مثل الحاجيات المادية تندرج تحت مسمى الحاجيات غير المادية أو الحاجيات الرمزية مثل السعادة والكرامة. في هذا الصدد لاقت ظاهرة أو “تجربة بودشار” استحسانا في المغرب وفي دول أخرى مثل مصر وتونس لأنها أساسا حولت الفرح الفردي الذي تمنحه الموسيقى كفعل يستقبله الفرد إلى فرح جماعي تصنعه الموسيقى من خلال تشارك الحاضرين في أداء الأغنية وليس فقط سماعها واستقبالها وبالتالي يتم من خلالها الاستجابة لمطلب الفرح الجماعي.

إن الحاجة إلى الفرحة الجماعية تنبع من شعور يجعل من بعض الأزمنة على اختلافها وتنوعها مثل تأدية أغنية أو ترديد النشيد الوطني أو تألق المنتخب الوطني أزمنة ينصهر فيها الجميع وتحيل على حالة من الارتياح الجمعي والاستحسان المجتمعي والشعور الوجودي وكذلك الاعتراف الإقليمي والعالمي. لهذا يمكن اعتبار مظاهر الفرح والاحتفال الجماعي بإنجازات المنتخبات الوطنية التي عبرت عليها الجماهير المغربية نوعا من التعبير على التميز الثقافي والانفتاح الإنساني.

اقرأ أيضا

الفضاء الافتراضي: بؤرة للتوتر ومهدد للتعايش الاجتماعي

أضحت البيئة الرقمية موقعا لانتشار ثقافة الكراهية بين رواده بفعل إمكانية البوح والتعبير عن الآراء …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *