مقدمة عامة:
الولاية النسائية إكراهات النشأة والتطور التاريخي
سنتناول في هذا المقال إحدى تجليات الدين من خلال حضوره الصوفي النسائي في تاريخ المجتمع الأمازيغي المغربي، والسبب الذي جعلنا نختار هذا الموضوع هو الحضور اللافت للانتباه لظاهرة الولاية النسائية في المجتمع وخاصة منها التي جرت العادة على تصنيفها بالمجتمعات الزراعية التي تعاني من التخلف القروي. موضوع لم يحظ بعد بما يستحق من الاهتمام، ويتعلق بتدين النساء في هذه المجتمعات، خصوصا في بعده الصوفي والقداسي. فوضعية المرأة القروية المهمشة في المجتمع لا تقتصر على الحقوق الاجتماعية والقانونية، الاقتصادية والاجتماعية، والسياسيةـ، بل يشمل هذا الاقصاء ثقافتها وحضورها تاريخيا وخاصة مساهمتها في الحقول الدينية والرمزية والروحية. اذ أننا لن نضيف شيئا إذا ذكرنا ان التاريخ كتبه رجال لتدوين أحداث الرجال بالدرجة الأولى كفاعلين في واجهة الأحداث، عكس المرأة التي توارى دورها، عمدا، في المصنفات التاريخية بمختلف مواضيعها. كما أننا إذا أردنا أن ندرس ونقف عند خلفيات الذهنية الإسلامية في تصورها وتمثلها للمرأة يجب أن نسبر أغوار النصوص التراثية.
وقد اعتمدنا في مقاربتنا في هذا الاتجاه على بعض النصوص المناقبية في رصدنا لمختلف أوجه التصوف النسائي في ذاكرة القداسة النسائية في سوس. ونشير هنا أننا لسنا بصدد سرد إخباري لتراجم لكل النساء المتصوفات في سوس، ايمانا منا باستحالة ذلك في هذا المقال، وسنقتصر على مقاربة تحليلية أنثروبولوجيا سنرصد من خلالها خصوصيات الولاية النسائية وتجليتها وعوائقها وأوجه حضورها بالمقارنة مع ولاية الرجل أو الولاية الذكورية ان صح التعبير، وذلك انطلاقا من نموذج محدد في الولاية النسائية ألا وهو ولاية لالة “تاعلات” المشهورة. وهذا ما يقودنا الى الحديث عن المجال الذي يشمله المقال وهو وليات سوس، اعتمادا على نصوص مناقبية كثيرة لا مجال لذكرها هنا اختصارا للوقت وتجنبا في نفور القارئ، ولكن هذا لا يعني تهميش ذكر هذه النصوص بشكل مطلق، وسنعمد الى ذكر بعضها والهدف من ذلك هو تقريبها بشكل سلس الى القارئ. نصوص تتميز بأسلوبها في الإخبار وتناول المواضيع، وفي نفس الوقت سندعم تأويلاتنا انطلاقا من الاطروحة الأساسية المؤطرة لوجهة نظرنا حول الموضوع، لكي لا يبدو للقارئ أننا بصدد القيام بإسقاطات جاهزة دون سند ملموس interprétations prêtes sans fondement concret) )ومن هذا المنطلق سنعمد الى اعتمدنا على العديد من الآيات والاحاديث، وذلك من أجل تبيان المبرر والخلفية المرجعية الدينية لبعض الممارسات والرؤى والتمثلات الدينية الإسلامية السائدة سواء وسط النخبة العالمة بمختلف تشكلاتها أو لدى العامة، في تأويلها النصي لهذه المتن المقدس.
قد يُنظر إلى طرح المسألة الدينية في إطار ثنائية الرجل/المرأة على أنه مبالغ فيه من قبل وخاصة من قبل بعض الأشخاص الذين يؤمنون بعدم وجود فروق حقيقية بين الجنسين، في المرجعيات المطلقة، ويعتقدون أن الاختلافات حتى إن وجدت فهي اختلافات بسيطة ولا تستدعي القيام بأي دراسة معمقة في اتجاه رفع الستار على المصوغات الحقيقة التي استعملت لإقصاء النساء من ممارسة حقوقهن الطبيعية في المجتمع. ومع ذلك. وفي هذا الإطار نجد أن العلاقة بالجسد الأنثوي يكتنفه التوتر والتشنج على العموم نظرا لعدة أسباب ودواعي، منها ما له علاقة مع التجارب الفردية/الاجتماعية لكل جنس، والتمثلات الاجتماعية والدينية والثقافية، لأدوار كل واحد منهما، هذا بالإضافة إلى مسلمات فسيولوجية وبيولوجية تدخل في إطار الحميمية الخاصة للنساء مثل الحيض والحمل والإنجاب، كل هذه العوامل تستدعي تناول الموضوع من منظور تحليلي اجتماعي وتاريخي رصين.
لقد ظل الحقل الديني مجالًا احتكر فيه الرجال السلطة والوظائف الدينية، مما ساهم في أعادة إنتاج نفس النموذج التاريخي السائد والذي تمثل في الهيمنة الذكورية (وهنا نتحدث عن المجتمع العربي ما قبل البعثة) فقد تم تأويل النصوص الدينية بطريقة تخدم هذه تكريس هذه الهيمنة، مما جعل الدين في هذه الحالة يُعتبر أداة لتكريس السيطرة الذكورية وإعادة انتاجها. ويبقى هدفنا الأساسي هنا هو إبراز أوجه العلاقة المعقدة بين الرجل والمرأة وتطورات هذه العلاقة في المجالات التي انتقل اليها الإسلام ونتائج ذلك، من خلال نماذج تُظهر كيف يمكن للمرأة الأمازيغية-المسلمة أن تتجاوز الرؤية الدونية التي فرضتها عليها التأويلات المحافظة التي تلت ذلك الدخول.
لقد أدت بعض التأويلات التي اعتبرت النساء جنسًا ضعيفًا وناقضًا للدين والعقل، الى إرساء أسس نظام هرمي يعتمد على الجنس، وتعود فيه الأفضلية للرجال، وتم الاستناد في ذلك إلى آيات من القرآن يتم تأويلها عمدًا بما يتعارض مع مصالح النساء.
يقودنا النظر في التراث الفقهي الإسلامي، الى ملاحظة تراجع صورة المرأة في المتون الفقهية بدءا من العصور الوسطى مقارنة بما جاء به إسلام البعثة، الذي كان بمثابة ثورة على وضع حقوق المرأة في تلك المجتمعات. وفي هذا الإطار سعت هذه المتون الى إعادة النساء إلى الظل، مما ساهم في تهميش دورهن في النصوص الفقهية وتأويلاتها الجائرة للنصوص المرجعية.
خاصة فيما يتعلق بالأحاديث، حيث كان من الصعب التمييز بين الصحيح والضعيف، والمنتحل مما فتح المجال لظهور أحاديث ضعيفة تُستخدم لتبرير ممارسات ذكورية لم تُذكر صراحة في النص القرآني. وفي هذا الصدد نود الإشارة إلى أن فترة انبعاث الإسلام، التي أقرت بعض الحقوق الأساسية للنساء، تلتها مباشرة فترة تشريعية أقصت النساء وأعادت أوضاعهن إلى ما كانت عليه سابقًا، وهو ما يُفسر قوة المرجعيات الاجتماعية الذكورية التي قاومت كل تغيير في قوانين وثوابت المجتمع.
وفي الوقت الذي كانت فيه النساء في المجتمعات المجاورة حققن مكاسب كبيرة في المجالات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، تغيرت هذه الوضعية بشكل جذري بمجرد دخول تلك المجتمعات في المجال الإسلامي بمعناه التاريخي.
انشغل الفقهاء منذ العصر الوسيط، -ولا يزال الوضع قائمًا حتى يومنا هذا- بموضوع المرأة، وحاولوا إضفاء شرعية دينية على وضعها الدوني، معتبرين أن الرجل هو السيد في الاسرة وفي المجتمع، جهودهم تلك، كان الهدف منها ان يبدو أمر دونية النساء وكأنه واقع طبيعي وقدر إلهي محتوم. هذا الموقف تمدد الى أن شمل جميع الميادين والمجالات، ومنها أيضًا المجالات المتعلقة بالولاية الصوفية والقداسة النسائية، حيث تم إنتاج خطاب يتماشى مع المنظومة الاقصائية السائدة، مما أدى إلى تنحية النساء من هذه المجالات، بعد أن تم استبعادهن من ممارسة المهام الدينية الرسمية بحجة تحريم توليهن لوظيفة الإمامة أو بوصفها أسمى وظائف المنظومة الدينية.
وهكذا قامت النصوص الدينية التراثية بتحديد أدوار المرأة، وفق هذه المقاربة وتم تعزيز الاطروحة التي تقر بوجود تمايز مشروع وتراتبية مقدسة بين الجنسين في المجتمع وفي نيل الحقوق، وذلك استنادا الى تأويلات ضيقة ومقصودة لبعض النصوص. ومن ثم، أصبح من السهل استبعاد المرأة من مجالات أخرى. لذا، فإن التأويلات الفقهية أثرت بشكل كبير على التصورات الاجتماعية والثقافية حول المرأة، حيث نشهد نشوء علاقة جدلية بين وضعيتها الحالية والتمثلات السائدة حولها تاريخيا. هذا التأويل الديني، الذي يضع المرأة في مرتبة دنيا، هو بدوره يعكس الوضعية والتصورات المهيمنة في المجتمعات العربية ما قبل البعثة واستمرت في التعبئة والتأطير حتى الوقت الحاضر ومازالت بعض الأطراف تسعى الى استعمالها والتلويح بها في كل منعطف من منعطفات النقاش السياسي لأوضاع المرأة في المجتمع.
تأثير التأويلات الفقهية كان له انعكاسات واضحة على المستوى السياسي، حيث أكد الفقهاء عدم جواز تولي المرأة لمنصبي الولاية والإمامة، اللذين لا يقتصران على الأبعاد الدينية فحسب، بل يحملان أيضًا أبعادًا سياسية ترتبط بالسلطة. فالمفاهيم الدينية والسياسية غير مفصولة عن بعضها في هذا السياق. لذا، كان نفي الولاية والإمامة عن النساء بمثابة تمهيد لتبرير إقصائهن من الأدوار السياسية والاجتماعية الرائدة.
إن وضعية النساء في المجتمع، بما تحمل من قهر ودونية، أصبحت تجد تبريرًا في النصوص الدينية التراثية، حيث يتم تحويل الفوارق البيولوجية بين الجنسين إلى مبررات اجتماعية وثقافية لتكريس السلطة الذكورية. هذا التمييز الذي يصنف المرأة في مرتبة أدنى من الرجل هو في الحقيقة بناء اجتماعي تم تجذيره في اللاوعي الثقافي الجمعي من خلال عناصر الميثولوجيا والطقوس الغرائبية، مما يعطي لهذا الاقصاء مشروعية تجعله يبدو طبيعيًا، وأي خروج عنه يُعتبر خروجًا عن النظام الاجتماعي السليم والشرعي، مما يستوجب عقوبات منها الإقصاء المباشر والعقوبات الرمزية والجسدية.
وبذلك، نجد أن النصوص التراثية تلعب دورًا محوريًا في تبرير وإعادة إنتاج اللامساواة بين الرجل والمرأة، مما يؤثر على كافة المجالات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
في هذا المقال، سنعرض نموذجًا دينيًا تمكن من تخطي العوائق والإكراهات التاريخية، وحقق نجاحًا في مواجهة سلطة المرجعيات الاجتماعية والسياسية والثقافية. إنه النموذج السوسي المغربي في التصوف، فهذا النموذج المستند الى مرجعية الإسلام الامازيغي كما عرفه الباحثين في التاريخ، أتاح للنساء فرصة إثبات ذواتهن بلا مركبات نقص أو عقد، بل مكنهن من التفوق على الرجال من خلال تدينهن وصلاحهن، متجاوزات سلطات المؤسسات الاجتماعية والدينية، مستندات إلى المعرفة الباطنية والممارسة الصوفية.
لقد فتح التصوف السوسي أمام المرأة بابًا جديدًا لإثبات وجودها أمام الرجل، متجاوزةً التمييز الجنسي، رغم أن نشأته كانت من خارج المؤسسات الدينية الرسمية. فالتصوف، النسائي باعتباره تجربة غير خاصة، ظل هامشيًا ومُعرضًا للانتقاد من قبل المؤسسات الدينية المرتبطة بالسلطة، وخصوصًا العلماء المحافظين.
وقبل النجاح في فرض الذات، كانت هناك مواجهة للكثير من التحديات والتي كانت معقدة تحديات، شملت عوامل دينية واجتماعية، بالإضافة إلى جوانب بيولوجية، ساهمت الثقافة السائدة في تشكيلها وإضفاء الشرعية عليها.