لا يمكن تلخيص واحة سيوة فى مشاهدها الطبيعية فقط، بل يتفرد مجتمعها والمقيمون فيها بثقافة خاصة، عكست تأثير البيئة على حياتهم وأفكارهم، حتى أصبحت أحد أبرز معالمها، وتقف سواء بسواء مع طبيعتها الخلابة، وتاريخها الممتد.
وبعد أن استعرضنا فى الحلقتين السابقتين ملامح الواحة الطبيعية والأثرية، وجزءا من تاريخها، ومعالمها السياحية، نستعرض فى حلقتنا الأخيرة طباع المجتمع السيوى نفسه، وثقافته الإنسانية الفريدة، كما تمثلت فى عاداته وتقاليده، وانعكست على صناعاته البسيطة، التى أجاد فيها استخدام كل ما حبته به الطبيعة من موارد محدودة.
3 فساتين زفاف للعروس.. العريس يهدى حماته «قلب نخلة».. والشبكة من الفضة
فى أيام الأفراح تتجلى خصوصية الواحة وأهلها، وعاداتها وتقاليدها المتفردة، التى تميزها عن غيرها من المناطق المحيطة، ففى أيام العرس، ترتدى العروس ٣ فساتين مختلفة، تعبر الألوان المستخدمة فى تطريزها عن المراحل الثلاث المطلوبة لنضج البلح.
فى اليوم الأول، ترتدى العروس فستان زفاف أسود به خطوط طولية، وهى العادة التى ظلت مستمرة حتى منتصف سبعينيات القرن الماضى، إلى أن اسُتبدل بفستان الزفاف الأبيض التقليدى.
وفى اليوم الثالث من العرس، ترتدى العروس فستانا أبيض اللون، وتحته بنطلون مطرز بشكل يدوى، وتستقبل بهذا الزى عددا من أقاربها وأصدقائها، أما الفستان الثالث فيخصص للارتداء فى اليوم السابع من الفرح، ويخصص لأول لقاء بين العروس وأمها، عقب إتمام العرس.
وعادة يشهد اليوم السابع من العرس احتفالية خاصة، تتضمن خروج العريس مع أصدقائه وأقاربه لإحضار «الجُمار»، أو «أجروز»، وهو قلب النخلة، الذى يهديه العريس لوالدة زوجته، عرفانا منه بفضلها عليه، فكما أهدته الأم أغلى ما لديها، ممثلا فى ابنتها، يهديها العريس أغلى ما يملك، ممثلا فى النخلة، التى تعد مصدر الاقتصاد الأول بالنسبة له.
ولكون الثقافة السيوية مزيجا بين الأمازيغية والبدوية، تكون الرموز الموجودة على الفساتين معبرة عن وصايا الأم لابنتها باللغة الأمازيغية، لكونها اللغة الأم داخل المجتمع السيوى إلى جانب العربية.
وعن حلى العروس، يروى كبار الواحة أن أحد رجال الواحة المسنين، ويدعى «عم سنوسى» قرر يوما صناعة حُلى خاصة لزفاف ابنته من الفضة، فبدأت بنات الواحة فى الاقتداء بذلك، وأصبحت حلى الفضة هى الأساس المستخدم فى شبكة العرس.
ومع مرور الزمن، وكما تغيرت ألوان فستان الزفاف، تحولت الشبكة الفضية إلى الذهب، وفى الوقت الحالى يحاول بعض الشباب العودة إلى استخدام الفضة فى هدايا الزفاف نظرا لارتفاع أسعار المشغولات الذهبية.
وتهتم بنات الواحة بأدوات التجميل الطبيعية والبسيطة الموروثة عن أمهاتهن، ويستخدمن «مكحلة» مصنعة من مواد طبيعية، ومعها قطعة حديدية تستخدم فى وضع الكحل على العين تسمى «مرود»، وتحتفظ بها فى جراب من القماش، مزين بمجموعة من الخيوط والأزرار.
وعادة يسعى مجتمع الواحة إلى تخفيض تكاليف الزواج، لذلك لا يكون للمهر أهمية كبيرة، على أن يتولى الشاب تجهيز منزل الزوجية، الذى كان عادة فى بيت أسرته، وإن تطورت الأمور فى الفترة الأخيرة، وأصبح منزل الزوجية مستقلا.
وقبل إتمام الزفاف، يعد العريس وأصدقاؤه وأقاربه دعوات العرس، ويقوم بعضهم بتوزيعها على الأهل والأقارب، أما العروس، فتتوجه قبل الفرح للاستحمام فى «حمام كليوباترا»، بمنطقة «أم عبيدة»، وتبقى بعد ذلك فى حجرتها تنتظر وقت إتمام العرس.
وتجلس العروس فى منزلها لانتظار «الوصيفة» المسئولة عن تزيينها، على أن تتوجه بعدها إلى منزلها الجديد، بصحبة واحدة من قريبات العريس، ثم يستقبلها باقى الأهل بالغناء.
ويعقد القران داخل مسجد الواحة، ويعقبه احتفال بسيط يقام أمام المنزل، ولا يُسمح للعريس بإحضار زوجته إلى منزلها الجديد، بل تتولى ذلك شقيقته أو عمته أو خالته، بينما ينتظر هو أمام بيته.
وفى يوم الصباحية، يُخصص أحد الجيران منزله لاستقبال المُهنئين، كما يخصص بيت آخر لوالد العريس يستقبل فيه شيوخ الواحة، وبعد مرور أسبوع، يسمح للأم بزيارة ابنتها، ويجتمع الأهل فى منزل أم العروس، ثم يتوجهون لزيارتها معا عقب صلاة العشاء.
«الطرفوطت» زى نسائى من كرداسة.. «الخُص» لجلسات الكبار.. وتقنيات للصرف الصحى
رانيا حلمى
إلى جانب الأفراح، يحتفظ المجتمع السيوى بكثير من تقاليده الخاصة والتاريخية، وتعكس أزياء النساء هذه الخصوصية أكثر من غيرها، وأثناء التجول فى شوارع الواحة، يلفت نظر الزائرين ارتداء جميع السيدات زيًا موحدًا، هو عبارة عن ملاءة زرقاء اللون، تختلف كمية التطريز فيها من سيدة إلى أخرى، تلتزم كل منهن بالإمساك بطرف العباءة بالفم، ولا تُظهر إلا عينا واحدة تمكنها من الرؤية.
وقال محمد جيرى، أحد أبناء الواحة، إن النساء المتزوجات يلتزمن عادة بارتداء زى خاص يسمى «قال الطرفوطت»، الذى يجرى إحضاره إلى الواحة من منطقة كرداسة فى محافظة الجيزة، نظرا لما يربط بين المنطقتين من علاقات تجارية ممتدة عبر التاريخ.
وأضاف: «يسمح المجتمع السيوى للفتيات بالخروج إلى الشارع، سواء كان الغرض هو الذهاب إلى المدرسة أو زيارة الصديقات، وما يعتقده البعض من عدم خروجهن كثيرا يرجع إلى كون توفير مستلزمات البيت من مسئوليات الرجل».
وعن الأشكال الخاصة فى تطريز الملاءات، كشف «جيرى» أن التطريز يتم بمعرفة سيدات سيوة أنفسهن، وتختلف كمية التطريز المسموح بها فى الملاءات بحسب سن السيدات، فكلما تقدمت إحداهن فى العمر قلت مساحة التطريز لمزيد من الاحترام والوقار.
وأكد أن المجتمع السيوى يوفر للنساء كل أوجه الاهتمام والرعاية، ويعتبر المرأة مسئولة عن رعاية الأسرة، فضلا عن كونها تعمل عادة فى مجال التطريز، لذلك فهى امرأة عاملة وعضو منتج فى مجتمع الواحة.
وإلى جانب الملابس، تحظى البيوت السيوية بخصوصية شديدة، تتبدى ملامحها فى الغرفة التى يسمونها «اتغرفت نشيتى»، أو الغرفة الشتوية، وهى حجرة تقع فى الجزء الجنوبى من المنزل السيوى، لتفادى الرياح الباردة.
وتضم الغرفة الشتوية مجموعة من المساند القطنية، الموضوعة بعناية فوق «كليم»، وتتضمن شماعة خشبية لوضع الملابس، وتتوسطها مائدة مستديرة لجمع العائلة، وقال «جيرى» إن مجتمع الواحة نجح منذ قرون طويلة فى تكوين منظومة خاصة للصرف الصحى، نظرا لطبيعة مادة «الكرشيف» الملحية، التى يستخدمها الأهالى فى البناء، لكونها تتأثر بسهولة فى حال تعرضها للمياه لمدة طويلة.
وبناء على ذلك، لجأ الأهالى إلى وضع «الحمام» فى الجزء الجنوبى من المنزل، لكونه أكثر دفئا، ويناسب اتجاه الرياح، ما يسهل التخلص من المواد الرطبة عن طريق الرمال، التى تضاف إلى الخزانات الأرضية، لامتصاص الماء، ما يترك الفضلات الصحية جافة بشكل كبير.
ونجح المجتمع السيوى فى التخلص من الغازات الموجودة فى الخزانات وروائحها عن طريق إضافة الرماد الناتج عن حرق الحطب فى الأفران إليها، ما يساهم فى تجفيفها، على أن تستبدل أرضية الخزانات بالكامل، كل ٦ أشهر، وتستخدم كأسمدة عضوية جافة، فى الأراضى الزراعية.
وخارج المنازل، تتسم بيوت أهالى الواحة بوجود غرفة مفتوحة تسمى «الخص»، تضم مقعدين من الحجر، ولها فتحة خلفية تصل بينها وبين المنزل، وهو مكان مخصص لجلسات كبار السن، يستقبلون فيه زائريهم لتبادل الأحاديث.
الملح يستخدم فى صناعة الأباجورات والصابون.. استغلال النخيل فى البناء.. وحمامات سباحة فى المناطق الزراعية
يتفرد المجتمع السيوى عن غيره بصناعات خاصة، تعتمد عادة على الملح المستخرج من البحيرات، الذى يعيدون صناعته لتكوين «أباجورات» تضىء بالشمع، تستوحى تصاميمها من الطبيعة فى أغلب الأحيان، ويكفى مبلغ ١٠٠ جنيه لشراء أباجورة متوسطة الحجم، ومتميزة الشكل، وجيدة الصناعة.
وقال أحد أبناء الواحة، ويدعى «يوسف»، إن هذه المنتجات المصنوعة من الطبيعة تساعد فى التخلص من الطاقات السلبية، بالإضافة إلى ما تتسم به من شكل جمالى مميز، كاشفا أن المحلات الصغيرة الواقعة فى الممر الموجود فى مدخل قلعة شالى، تكتفى بالإضاءة بهذه الأباجورات، التى تلفت عادة انتباه المارة وزائرى المكان.
وبجنيهين فقط يمكن لزائر الواحة، أو المقيم بها، الحصول على «صابونة من الملح»، التى تُستخدم كـ«مُقشر» طبيعى للجلد.
ورغم كونها واحة واقعة فى قلب صحراء ممتدة، فإن سيوة تملك مخزونا كبيرا من المياه الجوفية، وبها ما يقرب من ٢٢٠ عين مياه طبيعية، يرجع تاريخ بعضها إلى العصور الفرعونية واليونانية الرومانية، ونظرا لوقوع أغلب هذه العيون وسط المناطق الزراعية، يتاح للآباء تعليم أطفالهم السباحة فى سن صغيرة. ونظرا لعدم معرفة الأهالي للعوامات البلاستيكية، يستعين الآباء بنبات من فصيلة القرعيات، يدعى «إتزنا»، وهو نبات يتم تجفيفه، ويربط بشريط معلق على ظهور الأطفال، لتسهيل طفوهم، وفى حال نجاحهم فى تعلم السباحة، يعقد الآباء احتفالا مبسطا، يقدمون فيه الطعام إلى الأطفال، لتشجيعهم. كما يستخدم الأهالي آلة صغيرة لصناعة العصائر تسمى «تحسنت»، وهى قطعة خشبية تنتهي بسن حديدي، يستخدم في تفتيح مسام النخلة، وتجميع عصائرها التى تسمى «اللجبى»، والتي تشبه كثيرا عصير القصب، المعروف في عموم مصر. ويحرص أهل الواحة على الاستفادة من كل شيء منحته لهم الطبيعة، وعادة تعد أشجار النخيل أهم مصادرهم، حتى النخلات كبيرة السن، أو المريضة أو العاجزة عن الطرح لأي سبب تستخدم على نطاق واسع في بناء المنازل وتسقيفها، لدعم أحجار البناء المتكونة من الملح المتكلس، الذي يسمى «الكرشيف».
ويساعد البناء بهذه الطريقة على التعامل مع مناخ الواحة، الذي يعانى من التطرف في درجات الحرارة، ويتنقل بين شديد الحرارة صيفا، وشديد البرودة شتاء.
*رانيا حلمى/ الدستور المصري