إن النظر في تاريخ يناير، يقودنا إلى عمق عظمة تاريخ الجزائر والذاكرة الشعبية، وهو ما يزيد شجاعة الانتماء إلى دولة لها تاريخ عظيم، فالتمسك بيناير والاحتفال به هو تمسك بحضارة وثقافة وهوية، وكثيرا ما تحدث الأكاديميون والباحثون عن سمة هذه الاحتفالية وأبعادها الاجتماعية والثقافية، كما دعوا إلى عدم اختصارها في المظاهر الفلكلورية، فيناير هو الذي يربطنا بتاريخنا، هويتنا وحياتنا، ويجب أن نكون اليوم ضمن الذين يرون الجزء المملوء من الكأس وليس الفارغ منه.
خلال مختلف الملفات التي خصصتها ”المساء الجزائرية” لبداية السنة الأمازيغية وخلفيات الاحتفال بها، التقت بعدد معتبر من الباحثين والدارسين الذين خاضوا في مسألة الهوية والثقافة الأمازيغية، حيث سبق للدكتور والباحث في التاريخ الأمازيغي محمد أرزقي فراد، أن أكد لـ”المساء”، أن الدلالة الوحيدة المتبقية من احتفالية يناير اليوم، هي الدلالة الثقافية والاجتماعية، حيث نحتفل بمكون أساسي من مكونات الهوية الجزائرية، والممثلة في فرحة العائلة بهذا العيد الذي تظهر ملامحه من خلال تجمع أفراد العائلة حول مائدة العشاء، لتناول أكلة ذات بعد ثقافي تاريخي، مشيرا إلى أن المجتمع اليوم، لم يعد مرتبطا بالحساب الفلاحي الذي تحول إلى رزنامة فلكلورية، أثرت عليها التطورات التي طرأت على المجتمع.
تمسك بالهوية
يعكس الاحتفال بيناير، حسب فراد، مدى التمسك بالهوية المغاربية، على اعتبار أن سكان المغرب العربي يجتمعون حول قواسم مشتركة، وقال ”إن يناير عبارة عن عيد للفرح، جاء من عمق التاريخ، ووجد قبل مجيئ الإسلام، وهو احتفالية بسنة فلاحية أمازيغية جديدة مبنية على رزنامة ”جوليان”، الإمبراطور الروماني السابق، مشيرا إلى وجود فرق 12 يوما بينها وبين السنة الميلادية، لأن البابا ”غريغور” المسيحي كان وراء تعديل رزنامة ”جوليان” في القرن 16، ومنه سار الأمازيغ على هذه الرزنامة، وعن سر ارتباط السنة الأمازيغية بالرزنامة الفلاحية، أرجع فراد ذلك ـ ببساطة ـ إلى أن حياة أفراد المجتمع قديما كانت مبنية على الزراعة فقط، وكان لكل فصل خصوصية، ففصل الشتاء مثلا، تنام فيه الطبيعة، وعندما يحل فصل الربيع، تبدأ مرحلة الخصوبة، بعدها يأتي فصل الصيف الذي يمثل فصل الجني والحصاد، ونعود بعدها إلى فصل الخريف الذي تبدأ خلاله عملية الزراعة، وعليه فإن هذه الفصول بمدلولها مرتبطة بالأرض.
أما البروفيسور سليمان حاشي، فأكد من جهته، خلال ملتقى عقد بجامعة ”مولود معمري” بتيزي وزو منذ سنتين، وتناول موضوع ”يناير رمز وتاريخ ألف سنة”، أن تمسك الجزائري بيناير والاحتفال به، هو تمسك بحضارته وثقافته وهويته، فهو لحظة استثنائية ومؤسسة، واحتفالية مليئة بالحماس، مشيرا إلى أن الوقت ليس كيانا بريا أو غير معروف أو معروفا قليلا، إنما متحكم فيه، على اعتبار أن الشعوب تُعرف وفقا لدورات هذا الوقت، مما يجعل وقت الزرع والحصد معروفا أيضا، وكذا وقت الحرث، والذي يتوافق مع مجتمعات المغرب العربي التي لها عادات، ولها تقويم شمسي، إذ نفس الأوقات تتكرر خلال نفس الفترة من السنة، مما جعل يناير 12 جانفي في مجتمعات شمال إفريقيا والمغرب العربي، ومن مصر إلى غاية المحيط الأطلسي، ومن البحر الأبيض المتوسط إلى التشاد، يتوافق مع تاريخ بداية السنة.
اعتبر حاشي أن هذه المجتمعات تتحكم في النظام المعرفي حول كيفية تسيير الوقت، وهذا قبل بداية تقويم الروم، وقبل ماسينيسا، مؤكدا أنه رُتب على نطاق أوسع ما ورثه عن زراعة الحبوب. امتداد مملكة ماسينيسا كان بالتركيز على مبدأي لا مركزية الإدارة وزراعة الحبوب، مضيفا أن الحبوب كالشعير، الأرز والذرة، تعتبر مؤسسة الثقافة والحضارات، مما يجعل التمسك بيناير والاحتفال به؛ تمسك بحضارته وثقافته وهويته.
أما الدكتور حميد بيلاك (إطار بالمحافظة السامية للأمازيغية)، فأوضح خلال نفس الملتقى، أن من الصعب اكتشاف والكشف عن تاريخنا، لمعرفتنا أنه لا يمكن إعادة التاريخ، فقد مر بشقيه السلبي والإيجابي، لكن يمكن إعادة كتابة التاريخ بالعودة إلى الكتب التي تناولت حياة وتاريخ الأمازيغ، ومحاولة الكشف عن الجانب الحقيقي من أجل تغيير الكتابة لإظهار الحقيقة، من جهة، ونزع الجانب السلبي الخاطئ.
قيمة يناير من قيمة اللغة الأمازيغية
قال بيلاك، إن ما وصلنا اليوم تناقلته الألسنة عبر الأزمنة، ليس لدينا ”ترجمة هيكلية”، لكن هناك ترجمة شفوية، عبر الشعر والغناء اللذين عوضا الكتاب الذي حرمنا منه التاريخ، موضحا أن بالدراسة والبحث في العلاقة التي تجمع الشعر والمجتمع بين القرن 17 والقرن 19، يمكن الوصول إلى تاريخ، من خلال البحث في أشعار يوسف أوقاسي، سي محند أومحند، الشيخ محند الحسين، وغيرهم، لفهم كيف بدأت حياة الأمازيغ بشكل عام.
أضاف المحاضر أن قيمة يناير من قيمة اللغة الأمازيغية، مشيرا إلى أن ترسيم هذا التاريخ كعيد وطني رسمي، هو تحقيق لحلم طال أمد انتظاره، يقودنا إلى تذكر كل من مات وسُجن وناضل من أجل الأمازيغية كلغة وهوية وثقافة، إلى حين أن أصبح يناير عيدا وطنيا رسميا، مشيرا إلى أن الاحتفال بيناير هو العرس الذي يشترك فيه الشعب الجزائري عدا الأعياد الدينية، حيث في الماضي، كان الاحتفال بهذا الحدث من خلال إعداد طبق الكسكسي بالدجاج، مجرد عادة ليس له إسهامه الاجتماعي، بدون معرفة ما قيمة هذا التاريخ وهذا الاحتفال، لكن، يضيف، بفضل جهود المناضلين ووجود الوعي، تبينت قيمة هذا الحدث، الذي أظهر أن يناير هو الذي يربطنا بتاريخنا، هويتنا وحياتنا، وأنه اليوم يجب أن نكون ضمن الذين يرون الجزء المملوء من الكأس وليس الفارغ منه. أشار بيلاك إلى أن الحديث عن المناضلين من أجل الثقافة والهوية الأمازيغية، يقودنا إلى الحديث عن الأكاديمية البربرية، التي خُلقت في فرنسا عام 1966، ويعود الفضل في ذلك لأعمر ميقادي، الذي وضع أول تقويم في الثمانينات، مضيفا أن المنخرطين ضمن الأكاديمية بفرنسا، هم من عملوا من أجل أن تكون البداية من 950 قبل الميلاد، حيث أن للشعوب في العالم تاريخ خاص بها وبداية تقويمهم، ولكل شعب الحق في اختيار بداية تقويمه. اختارت الأكاديمية أحد قادة الأمازيغ الذي تربى بمصر، وأصبح قائدا عظيما، أنشأ العائلة الفرعونية 22، ليقع عليه الاختيار لبداية التقويم الأمازيغي ”كرمز”، لأن الشعوب تختار رمز العظمة والقوة الذي هو ششناق بالنسبة للأمازيغ.
*المساء الجزائرية