في هذه النافذة سنقدم مجموعة من اليوميات الحياتية لأرملة شابة وهي الشاعرة والفنانة زورا تانيرت زوجة المرحوم الفنان الكبير عموري مبارك، يوميات بيضاء مؤلمة تحكي فيها “زورا” عن حياتها وتتوسم من خلالها أن تكون نقطة في بحر من التغيير في مجتمع تعاني فيه كل امرأة ترملت، وسندرجها على شكل سلسة تحكي عن الأحداث الجارية والماضية.
زورا تانيرت
الحلقة الثانية
سبعون ليلة بيضاء قضيتها بجانبه في المستشفى.. محافظة على ابتسامتي ..والصبر والأمل اسلحتي..أخفي معالم تمزق قلبي عليه.. وربما التساؤل الوحيد الذي كان يحيرني انذاك هو من اين لي بكل تلك القوة والصبر اللذان تسلحت بهما…انا التي كنت اخاف رؤية مريض امامي..أنا التي كنت أخاف خدشا بسيطا.. ما هذه القوة الداخلية التي تدفعني للابتسامة وأنا في قمة ألمي؟ انها وبكل بساطة..المرأة حين تشهد موت روحها داخل جسد آخر.
لم يكن طيف الموت يمر من أمامي، فقد كنت اراه جسدا وروحا كل يوم عند كل صرخةِ من وافت المنية احد اقربائه..! كان كل يوم داخل اسوار المستشفى بقيمة سنة مما رأت عيني من حزن ومرارة فقدان الامل في عيون المرضى وذويهم..
انه السرطان يا سادة .. ضيف ثقيل، أخد أعز شخصين وعداني ان لا يرحلا ..فلم تترك لهم الموت مجالا للوفاء بوعدهم.. أخذ أبي اولا و انتقل بكل انانية ليأخد نصفي الثاني..مصدر امني وأماني.
كانت تلك الليلة جوفاء.. ثقيلة الظل.. حملتُ فيها اثقل حزن عرفته بعد حزني على أبي.. لحظة الوداع الاخير..
لا ادري من أين يأتي الموت بكل ذلك الصبر و الطغيان..صبر لإعادة سيناريوهات تخلد لِحلقاتِ اجيال لا تنتهي،و طغيان داخلي يحول الجسد الى كثلة حزن ثقيلة على الروح..أنا وهو في ليلته الأخيرة وسط ظلام يعم ارجاء الغرفة بطلب منه.. وضوء خافت ينبعث من النافدة.. تعمد الرحيل في تلك العتمة حتى لا يرى تلك الحسرة في عيني.. حتى لا يأخد معه دموعي..تعمدها حتى تبقى الابتسامة اخر ما رأى على محياي..او ربما كان لا يرغب بأن اراه ماضِِ في أن يخلف وعده لي بالبقاء..!
امسكت بيده الباردة وارتأيت ان اغطيها فرفض مبتسما.. لقد كان مدركا سبب البرودة..وأنا في محاولة عدم ادراك لأي شيئ.. تعمدت التشبت بالأمل الذي كان في الحقيقة ألما يعتصر احشائي حتى أخر لحظة.. لقد كان شامخا ذاك الرجل.. ذو كرامة وعزة نفس لم اشهدهما في أحد غيره.. متّزن العقل حكيما طيبا..حنونا.. عارفا ومدركا لتفاصيله حتى أخر رمق..كان يتحدى الموت بصبر.. لم اشهد رجلا تَمسّك بالحياة مثله…!
نظرت اليه في حزن رهيب.. سألته: هل أنت بخير..؟ كنت كمن يسأل سائحا في اغوار عالم اخر..كان مبتسما وشارد النظرات.. احيانا يغوص في ملكوته وأحيانا أخرى يعود للابتسامة في وجهي.. وكلما سألته عن حاله يحرك اصابعه وكأنه يقول وداعا.. أما في لحظته الاخيرة..فقد نطق اسمي كطفل يتهجى الحروف “زهرة” ثم ابتسامة.. ثم ساد بعدها صمت طويل..صمت أبدي.. قتلني.. صمت لا يعيد لي الاحساس بالحياة الا بسماعي صوته يردد أغانيه الخالدة..!
يتبع…