(……) يتذكر سيبستسان الهجوم على الحصن البرتغالي وتدميره عن بكرة ابيه، ولم يتبقى فيه اليوم إلا إطلال تحكي قصص الحياة والمغامرات في دهاليزه. قصص تمتزج فيها السعادة والألم، الخوف، والشجاعة، قصص جرت وقائعها بالقرب من سواحل ماسة، حيث يلتقي البحر الأطلسي مع الرمال الذهبية، كان البرج البرتغالي في دوار آيت سوق يقف شامخًا كحارس للمنطقة. هذا البرج، الذي يعلو فوق المنحدرات، التي تخترقها شعاب جبارة، كان قد شهد أحداثًا عديدة، لكن لم يكن أحد يتوقع أن يأتي اليوم الذي يتحطم فيه هذا الحصن وتندلع فيه النيران، نيران شوهدت على مدى الأفق البعيد أفق جبال جزولة الصامدة. وضلت سفوحها وقممها تحكي بطولات وأمجاد ذلك اليوم المشهود في تاريخ سوس، يوم ليس ككل الأيام وفيه انبعثت لمطة الكبرى من رمادها، وزحزحت أحجار تابوتها الخالد، وأعلنت نفسها من جديد.
قبيل الهجوم على قلب الحصن البرتغالي، كان القرصان سيبستيان يتفقد الجدران العالية للبرج. كان هو الرجل الذي أعطى البرتغاليين السيطرة والهيبة في هذه الربوع وفي المنطقة ككل، وأصبح محط أنظار الجميع. وقد أبدع سيبستيان في إعداد دفاعات الحصن، حيث كان مليئًا بالجنود المدربين، مدججًا بالأسلحة الثقيلة، وكان يظن أن البرج محصن بما يكفي لصد أي هجوم.
لكن لم يكن يعلم، أن في تلك الأيام، قد بدأت الأمور تتغير وكانت الرياح. قد بدأت تهب من أدرار ن درن، معقل الروح الأمازيغية الصلبة، ومنطلق الالهة التي حكمت العالم القديم، وما قصة الإلاه آمون إلا دليل على صحة هذا الاعتقاد. جوار دوار آيت سوق، كان سكان ماسة يراقبون، صامتين، تحركات البرتغاليين، وهم يعانون من استغلال مواردهم بشكل مستمر. بعضهم كانوا يقاومون في السر، يخططون لأمر ما. كانت هناك همسات حول انتفاضة، وتكتلات بين الأهالي وحلفاءهم.
وجاءت ساعة الصفر. وحان وقتها. في إحدى الليالي القاتمة، قبل بزوغ الفجر، تحركت جيش ماسة وجيوش القبائل المجاورة في صمت. كانوا قد تلقوا دعما لا مشروطامن وجهاء ماسة الذين سئموا الهيمنة البرتغالية على أراضيهم. حملوا معهم الأسلحة التقليدية، وبعضهم جلب أدوات بدائية لتسلق الأسوار. كان هدفهم واضحًا: تدمير البرج البرتغالي وتحرير ماسة من الاستعمار.
عند الفجر، بدأت الحشود بالتحرك نحو الحصن البرتغالي. كانت أصوات الخطى الخفية تتناغم مع زئير الرياح، وكان الجميع يعرف أن اللحظة الحاسمة قد اقتربت. قاد أحد زعماء زعماء ماسة الهجوم، وهو رجل طويل القامة ذو لحية كثة وعينين مشعتين بالغضب. كان يعرف أن الهجوم على هذا الحصن سيغير مجرى التاريخ، ويستعيد كرامة المنطقة.
وبدأت فصول الهجوم على الحصن عندما وصل المهاجمون إلى أسواره العالية والسميكة، بدأت المدافع البرتغالية تُطلق النيران، معلنة عن بداية المعركة. كان سيبستيان داخل البرج، يتفقد الحصن في عجل، لكنه سرعان ما شعر بتلك الهزة العميقة التي عكست بداية الهجوم. أصوات البنادق والمدافع اخترقت الليل، وسرعان ما تحولت ساحة المعركة إلى جحيم.
كان سيبستيان يقف على أسوار البرج، يراقب الهجوم بصمت وترقب، ثم أرسل أوامره لجنوده لاستعداد لملاقاة الهجوم. لكن المهاجمين، بقيادة جيش ماسة، كانوا ينسقون بشكل محكم. بدأوا بتسلق الجدران باستخدام الحبال والأدوات المحلية، محاولين اقتحام الأسوار. في اللحظة التي وصلوا فيها إلى الأعلى، اندلعت معركة دامية داخل الحصن.
أصوات السيوف تتصادم، وتكسر الخشب، وصرخات الجنود البرتغاليين كانت تتردد في كل زاوية. سيبستيان، الذي كان معروفًا بشجاعته في المعارك، أخذ سيفه الكبير واندفع إلى المعركة. لكن الهجوم كان شديدًا، والعدد كان أكبر من الجنود البرتغاليين. أخذ المهاجمون يسيطرون على البوابة الرئيسية، وتدفقوا إلى داخل الحصن.
سقوط الحصن أصبح وشيكا، ونهايته تبدو حقيقية. وسرعان ما بدأ البرج يهتز تحت وطأة الهجوم. كانت النيران قد بدأت تلتهم الزوايا الخشبية للمباني، والبرج ينهار مع مرور الوقت. سيبستيان، الذي كان يحاول تنظيم مقاومة، أدرك أن الوضع أصبح ميؤوسًا منه. محاصرون من جميع الاتجاهات، وكان عددهم يتناقص بسرعة. في النهاية، لم يعد هناك مكان آمن في الحصن.
في تلك اللحظة، كان هناك انفجار هائل. بعض الجنود البرتغاليين، الذين حاولوا إشعال النيران في مخازن الأسلحة، تسببت في انفجار هائل دمر أجزاء كبيرة من البرج. الحصن الذي كان يومًا يمثل رمزًا لقوة البرتغاليين في المنطقة، أصبح الآن مجرد أنقاض تتصاعد منها سحب الدخان الأسود.
مع انهيار الحصن، بدأ المهاجمون في السيطرة على المنطقة، حيث بدأت جيوش القبائل وجيش ماسة يستعيدون أرضهم ويطردون آخر الجنود البرتغاليين. كانت النيران التي تلتهم الحصن وتعكس الانتصار الساحق، وكانت الأرض تهتز من شدة الصرخات. سيبستيان، الذي كان آخر من خرج من الحصن، وجد نفسه وحيدًا وسط الأنقاض.
حاول الهروب إلى البحر على متن سفينة صغيرة، ولكن الرياح كانت عاتية، والسفن البرتغالية كانت قد دُمرت أيضًا. في النهاية، أسر القرصان سيبستيان مع سفينته في البحر، مختتمًا فصلاً من الاستعمار في تاريخ ماسة. ولكن مشهد أسر القرصان سيبستيان في ماسة، بعض تدمير الحصن، يظل أقوى مشهد في فصول تحرير وادي ماسة من القبضة البرتغالية الحديدية. وحينه كانت الشمس تميل نحو الغروب، وبدأت ترسم خيوطًا دموية فوق أمواج البحر المتكسرة على الشاطئ. الدخان لا يزال يتصاعد من الحصن البرتغالي المدمَّر، فيما تردد صدى صرخات الجرحى وأصوات المحاربين المنتصرين في الأرجاء.
في وسط الفوضى، كان سيبستيان، القرصان الذي أرعب السواحل، مكبل اليدين، يجره محاربان من رجال القبيلة فوق الرمال الخشنة. وجهه ملطخ بالدماء، وشعره الأشعث يتطاير مع الريح. رغم أسره، كانت عيناه لا تزالان تشعان بالتحدي، لكنه كان يدرك أن مصيره قد حُسم.
عند وصولهم إلى ساحة القبيلة، احتشد الناس حول الأسرى، وارتفعت الهتافات والطبول تعلن النصر. وقف شيخ القبيلة، وهو رجل طويل وقوي البدن والشكيمة، بلحية بيضاء، ينظر إلى سيبستيان نظرة مزيج من الاحتقار والانتصار. بجانبه، كان أحد المحاربين يرفع سيفه عاليًا، ينتظر الإشارة لتنفيذ العقوبة.
لحظة صمت مشحونة بالأعصاب، ثم دوى صوت قوي من بين الحشود: “انتظروا!”
التفت الجميع إلى مصدر الصوت، فظهر رجل متقدم في السن، أنيق الهيئة، بثياب فضفاضة تدل على مكانته الرفيعة. كان أحد وجهاء ماسة، رجل عُرف بحكمته وبُعد نظره. تقدم حتى وقف أمام شيخ القبيلة وقال بصوت ثابت: “لا تتسرعوا في زج رأسه، هذا الرجل يعرف البحر كما نعرف نحن الوادي. قد يكون ذا فائدة للقبيلة، نستفيد من علمه قبل أن نحكم عليه بالموت.”
ساد الهمس بين الحضور، وتبادل المحاربون النظرات، بينما أطرق شيخ القبيلة مفكرًا. أخيرًا، أومأ برأسه ببطء، فأعيد القرصان إلى السجن، على أن يُناقش مصيره لاحقًا.
حين دُفع سيبستيان إلى الداخل، أخذ نفسًا عميقًا. كان يعلم أنه نجا من الموت، لكن السؤال الذي ظل يتردد في ذهنه: إلى متى؟
لم يكن سقوط الحصن مجرد تدمير لبناء من الطين والحجر المصقول والخشب، بل كان تدميرًا لحقبة من الهيمنة البرتغالية على سواحل المغرب. ومع تدمير البرج، انتهت أسطورة سيبستيان، في فصلها الأول. لكن معركة ماسة استمرت في ذاكرة شعبها، لتكون علامة على أن المقاومة الشعبية لا تعرف الحدود، وأن الحرية كانت دائمًا أقوى من الاحتلال.
(يتبع)
تنويه: هذا النص مزيج من الوقائع التاريخية والخيال.