في ورشةٍ تملأها نشارة الخشبِ ورائحةُ الصمغِ الأصيلة، ينحني ظهرُ محمدٍ بإتقانٍ فوق منضدته في ضواحي ميلانو، كأنما ينحني تحيةً لِحرفةِ الأجداد. بينما تتراقصُ أناملهُ المُحنّكة على أخشابِ الزيتونِ والعَرْعَر، لا تكفُّ شفتاهُ عن همهمةِ أغنياتٍ أمازيغيةٍ من قرى “السيحل” البعيدة، حيثُ تركَ قلبهَ قبلَ أن يتركَ ترابها.
هذا النجارُ الستيني، الذي هاجرَ في تسعينيات القرن الماضي كغيره من أبناء جيله، لم يحملْ في حقائبهِ سوى كرّاسٍ مدرسيّ بالٍ وصورةٍ للملك الحسن الثاني، لكنه حملَ في قلبهِ يقيناً بأنّ “المغربَ لا يُغادرُ القلبَ حتى وإن غادرتهُ الجغرافيا”.
عصاميّة منقوشةٌ كعروق الخشب
مارسَ محمدٌ جميعَ المهنّ اليدوية قبل أن يستقرَ به المقامُ في النجارة، فكانَ بناءً، وسبّاكاً، وفلاحاً في مزارعِ المغرب تم مارس حرفا في الشمال الإيطالي. يقولُ مبتسماً ذلك الابتسامة التي تشبهُ شقوقَ الخشبِ العتيق: “تعلمتُ من آبائي أن الكرامةَ لا تُؤكلُ بالملعقة، بل تُبنى بالعرقِ والمِئْبر”. هذه الروحُ العصاميّةُ جعلت منه رجلاً يثقُ بصوتهِ، ويجيدُ فنَّ الحوارِ بلغةٍ إيطاليةٍ سالكةٍ تخلطُ جمالَ التوسكانا بصلابةِ الأطلس.
سفيرٌ غير مُتعيّنٍ لقضيةٍ وطنية
عندما يُذكرُ اسمُ “الصحراء المغربية” في أيّ محفلٍ إيطالي، يُمسكُ محمدٌ بمطرقتهِ وكأنها راية. فهوَ حاضرٌ في كلِّ تظاهرة، منتدى، أو وقفةٍ احتجاجية. شاركَ في مسيرات روما التي تهتفُ بوحدة المغرب، ونظّمَ معرضاً للصورِ التاريخيةِ في المدن الإيطالية يوثّقُ مغربية الصحراء، وحتى في مقاهي ميلانو، يحوّلُ حديثَ المهاجرينَ من هموم البطاقةِ إلى حديثٍ عن “الوحدة الترابية”.
ما يُميّزُ محمداً هو ذكاؤه في مخطابة الآخر. لا يرفعُ صوتهُ في الحواراتِ التلفزيّة على القناة الأمازيغية والإذاعة الوطنية الامازيغية، بل ينقُلُ برودةَ منطقِ الحقّ بحرارةِ قلبٍ مؤمن. يُذكّرُ الإيطاليين بأن “موريتانيا كانت تُسمى بلادَ شنقيط، وأن الصحراءَ كانت دوماً جزءاً من نسيجِ المغرب التاريخي”، ويُعلّمُ الشبابَ المغاربةَ فنَّ الردِّ بالحجةِ لا بالشعار.
وفاءٌ يتنفسُ مَلَكية
في بيتهِ المتواضع، ثمةُ ركنٌ أشبهُ بمعبدٍ للوفاء. صورةُ الملك محمد السادس مع العائلةِ الملكيةِ محاطةٌ بأكاليلَ من زيتونِ الوطن، وبجانبها شهادةُ مشاركتهِ في “حفل الولاء” الذي يصفهُ قائلاً: “حينَ أرى الملك، أتذكرُ وجهَ أبي رحمه الله، كلاهما علمني أن الكرامةَ مثلُ النجارة.. تحتاجُ إلى صبرٍ طويلٍ قبل أن تظهرَ تحفة”.
جذورٌ ممتدةٌ كأغصان الزيتون
انتماؤهُ لِمنطقةِ السيحلِ جعلهُ جسراً بين نخبِ المنطقةِ في المغرب ونخبِ الجاليةِ في إيطاليا. يُنسّقُ مع البرلمانيينَ وأعضاءِ الأحزابِ المنحدرينَ من المنطقةِ لدعمِ مشاريع الجالية، ويُذكّرهم دوماً: “السياسةُ ليست كرسياً، بل مسؤوليةً تجاهَ من لم يهاجروا”.
قلبٌ يخفقُ بلونِ العلم
في مبارياتِ المنتخبِ الوطني، يعلقُ محمدٌ الرايةَ المغربيةَ على واجهةِ محلهِ، ويوزّعُ الحلوى على الجيرانِ الإيطاليينَ عندما يفوزُ المغرب. يقولُ لهم: “هذا فرحي بوطني، وأريدُكم أن تشاركونيه”.
اليوم، وقد شَعرَ رأسهُ بالبياضِ مثلَ نشارةِ الخشب، يُلخّصُ محمدٌ فلسفته: “هاجرنا بحثاً عن الرزق، لا عن الهوية. نحنُ أوفياءُ كالسنابلِ.. كلما انحنى رأسُنا من ثقلِ الغربة، ازددنا تمسكاً بالأرضِ التي انحدرنا منها”.
هكذا هو محمد.. نجارٌ يبني من الخشبِ منازل، ومن الوفاءِ أوطاناً.
الحسين بوالزيت – صحافي وباحث في التاريخ