يعيش العمل الحزبي اليوم مرحلة فارقة تتسم بالهشاشة والإرتباك، حيث تتقاذفه رياح التكلس التنظيمي، وتنهشه مظاهر الاغتراب عن القواعد الشعبية، في ظل سياق وطني وإقليمي يعرف تحولات بنيوية عميقة وتحديات متنامية ومعقدة. لقد كانت الأحزاب السياسية، لعقود مضت، تشكل ركيزة أساسية في منظومة الوساطة بين الدولة والمجتمع، تؤطر المواطن، وتبلور تطلعاته في صيغ برامجية ومؤسساتية. غير أن هذه الوظيفة الحيوية بدأت تتآكل تدريجيا خلال السنوات الأخيرة، إذ أضحت جل الأحزاب أشبه بكائنات واهنة، أثقلتها الصراعات الداخلية، وأعجزتها الإنقسامات الحزبية، عن إنتاج خطاب سياسي موحد، أو تقديم مشروع مجتمعي جامع يستجيب للتحولات العميقة التي يعرفها المجتمع المغربي.
وبات المشهد الحزبي يعكس حالة عامة من القصور عن تجديد آلياته الفكرية والتنظيمية، والإنخراط الفعال في معارك البناء الديمقراطي والتنموي للبلاد . ولم تعد معظم الأحزاب قادرة على إستقطاب فئات عريضة من الشباب والمثقفين، التي تنظر بريبة متزايدة إلى الخطاب الحزبي التقليدي، وتجد نفسها خارج حسابات الفعل السياسي المؤثر. وإزاء هذه الوضعية المتأزمة، يطرح سؤال تجديد العمل الحزبي نفسه بإلحاح، كمدخل رئيسي لتأهيل الفعل السياسي، وتعزيز الثقة في المؤسسات، وصيانة المكتسبات الديمقراطية التي راكمها المغرب عبر مسار طويل من الإصلاحات.
لقد كشفت السنوات الأخيرة عن مجموعة من الأعطاب البنيوية التي تنخر الجسم الحزبي، يأتي في مقدمتها إنفتقاد معظم الأحزاب للاستقلالية الفعلية عن دوائر التأثير الإداري والمالي، مما جعل الكثير منها أقرب إلى ملحقات انتخابية عوض أن تكون قاطرة حقيقية للتأطير والتعبئة. كما أن الخطاب السياسي المتداول، بعد أن استهلكت وعوده وأفرغت مضامينه، فقد قدرته على الإقناع والتعبئة، مما عمق فجوة اللا ثقة بين المواطن والعمل الحزبي، وأدى إلى مظاهر عزوف سياسي غير مسبوقة، تجلت في نسب المشاركة المتدنية، وفي إنتشار المزاج الاحتجاجي غير المؤطر.
في هذا السياق المأزوم، يحاول حزب العدالة والتنمية، بعد انكساره الانتخابي الكبير سنة 2021، أن يستعيد حضوره من بوابة النقد والاحتجاج، مستعينا بعودة عبد الإله بنكيران إلى الأمانة العامة، في محاولة لبعث روح المعارضة الحية. غير أن السياق الاجتماعي لم يعد كما كان، إذ أن المجتمع المغربي، وقد خبر مرارة الإنتقالات الفاشلة، لم يعد يولي الثقة للشعارات الجوفاء ولا للخطابات العاطفية التي تفتقر إلى رؤية إصلاحية عميقة. إن العودة إلى دور “المعارض المزعج” تبدو، في ظل هذه المعطيات، أقرب إلى اجترار لتكتيكات قديمة أمام مشهد سياسي جديد، تحكمه تحولات الوعي والمطالب.
إن أزمة العمل الحزبي في المغرب لا تختزل في فشل الأحزاب السياسية مهنى تنوعت تلاوينها في تدبير الشأن العام فحسب، بل تكمن أعمق من ذلك، في غياب هندسة ثقافية وتنظيمية تؤسس لحياة سياسية حقيقية قائمة على التنافسية البرامجية، والشرعية الميدانية، والتأطير المستدام. فحين تصبح الأحزاب مجرد أدوات انتخابية عابرة، محكومة بهاجس المقاعد والغنائم، فإنها تفقد بمرور الزمن رصيدها الرمزي، وتحكم على ذاتها بالتحلل التدريجي.
على ضوء هذا التشخيص، يبدو أن مستقبل العمل الحزبي بالمغرب مرتهن بإرادة تجديد حقيقية، تتجاوز منطق إعادة إنتاج نفس النخب ونفس الخطابات، إلى بلورة نموذج حزبي جديد، قوامه الاستقلالية عن مراكز النفوذ، والتجذر الميداني، والقدرة على مخاطبة المجتمع بمصداقية وبرامج واقعية قابلة للتحقق. ولن يتأتى ذلك دون مراجعة جذرية لبنية الأحزاب نفسها ، من حيث آليات التسيير الداخلي، وطريقة إختيار القيادات، ونمط العلاقة مع المواطنين.
إن تجديد العمل الحزبي في المغرب لن يكون مجرد خيار نخبوي، بل هو ضرورة وجودية لتحصين المجتمع من انزلاقات اليأس الجماعي نحو الشعبوية الفوضوية أو النزعات الراديكالية اليائسة. فالفراغ السياسي، حين يطول، لا يبقي الأرض خالية، بل يغري قوى أخرى غير ديمقراطية بالتمدد والتمكين.
وعليه، فإن المغرب، وهو يخطو بثبات نحو استحقاقات إقليمية ودولية كبرى، أحوج ما يكون اليوم إلى أحزاب سياسية قادرة على إعادة ترميم جسور الثقة مع المواطنين، وإحياء الأمل في إمكانية الفعل السياسي المنتج للتغيير. أحزاب تخرج من عباءة التبعية والانتظارية، لتكون بحق مؤسسات حية، منتجة للأفكار، ومؤطرة للفعل، وحاملة لطموحات مجتمع حي، لا يقبل أن يكون مجرد جمهور صامت في مسرح السياسة.
*محام وباحث في الهجرة وحقوق الإنسان