دوار السوق أوفلا.. حين ينطق الاسم الجغرافي بذاكرة إفران الأطلس الصغير

الطوبونيميا، أو علم أسماء الأماكن، ليست مجرد تصنيف لغوي، بل مرآة تعكس علاقة الإنسان بالأرض، بالزمن، وبالتاريخ المحلّي. ومن بين الأسماء التي تختزن ذاكرة مكانية وثقافية غنية، يبرز اسم “السوق أوفلا”، وهو أحد دواوير جماعة إفران الأطلس الصغير، الواقعة في عمق جهة كلميم واد نون، جنوب المغرب.

قراءة طوبونيمية: الاسم يتكوّن من مقطعين

“السوق”: كلمة عربية مستعملة على نطاق واسع في المغرب، وتحمل دلالة اقتصادية-اجتماعية واضحة، فهي المكان الذي تُعرض فيه البضائع، وتتم فيه عمليات البيع والشراء. غير أن السوق في السياق القروي التقليدي، لا يقتصر على المبادلات التجارية، بل هو فضاء لتبادل الأخبار، وبناء العلاقات، وتسوية الخلافات، وتثبيت القيم الجماعية.

“أوفلا”: كلمة أمازيغية (ⵓⴼⵍⴰ) تعني “الأعلى” أو “الفوق”. وهي تمييز مكاني شائع في المجال الأمازيغي، يُستخدم لتحديد المواقع العليا جغرافيًا أو رمزيًا، وتُقابلها في التقسيم المكاني التقليدي “أسفل”.

الترجمة المعنوية: “السوق الأعلى”

عند جمع الكلمتين، تصبح دلالة الاسم “السوق أوفلا” = السوق الأعلى. ويُفهم منه أن هذا الدوار كان يحتضن سوقًا يُقام في موضع مرتفع عن باقي النطاق الجغرافي، سواء بالنسبة للمجال الفيزيائي، أو في دلالته الاقتصادية والاجتماعية.
في مقابل هذا الاسم، نجد غالبًا في المناطق المجاورة طوبونيمات مقابلة مثل “السوق الأسفل” أو “السوق إزدار” ,”ⵙⵓⵇⵇ ⵉⵣⴷⴰⵔ”، تعكس منطق التدرج المكاني الذي تتبناه الثقافة الأمازيغية.

من الاسم إلى الواقع:

دوار السوق أوفلا اليوم لا يضم سوقًا دائمًا، لكنه ما زال يحتفظ في ذاكرته الجماعية بكونه مركزًا قرويًا مصغرًا كانت تلتقي فيه القبائل المجاورة للتبادل التجاري.
وتشير الشهادات الشفوية إلى أن السوق كان يُقام في مواقيت محددة، وعرف بتنوع معروضاته من تمور، لوز، صوف، توابل، وأواني تقليدية. وكان في ذات الوقت فضاءً اجتماعيا لأداء الطقوس الموسمية، والاحتكام في النزاعات، وعقد الصلح بين الأسر المتنازعة.

من أبرز الرموز الطوبونيمية في دوار السوق أوفلا، نجد اسم مسجد لالة تازيتونت من الزيتونة إلى المقام… حين تُصبح اللغة مرآة للقداسة.

طوبونيميا المكان: “لالة تازيتونت” لغةٌ من جذور الأرض
اسم “لالة تازيتونت” لا يُفهم فقط كوصف جغرافي، بل كعلامة طوبونيمية ذات شحنة رمزية عالية.
يتكوّن من شقين:
“لالة”: لقب تشريفي أمازيغي/مغربي، يُطلق على النساء ذوات المكانة العالية أو على الشخصيات ذات الهالة القدسية، استخدامه هنا يضفي بعدًا صوفيًا وشعبيًا على اسم المسجد، كأن المكان يحمل صفة “السيدة المباركة” أو “الوليّة”.
“تازيتونت”: كلمة أمازيغية تعني “الزيتونة الصغيرة” أو “موضع الزيتونة”. وتشير الشهادات الشفوية إلى أن موضع المسجد كان يحتضن شجرة زيتون قديمة، يُعتقد أن أول درس قرآني انطلق تحت ظلها، ما جعلها رمزًا للعلم والبركة.

المعنى المركّب: “لالة تازيتونت” = “السيدة الزيتونة الصغيرة” أو “المقام المبارك للزيتونة”، وهو طوبونيم ذو دلالة مزدوجة طبيعية وروحية.

في الذاكرة النسوية لدوار السوق أوفلا، شكّلت “لالة تازيتونت” فضاءً روحانيًا خاصًا بالنساء، يتجاوز وظيفته الدينية كمكان للصلاة، ليُصبح مقامًا رمزيًا تُشدّ إليه الرحال في أيام الجمعة ومواسم البركة، خاصة في رمضان والأعياد.
كانت النساء يحملن معهن أشياء بسيطة كـ”أغروم”، الزيت أو الحليب، ويقمن طقوسًا تجمع بين التدين الشعبي والتقوى، مثل قراءة القرآن، الدعاء جماعيًا، إشعال البخور، وتقديم الشموع، طلبًا للشفاء، تسهيل الولادة، أو حفظ الأبناء.
وتُشير الروايات الشفوية إلى أن مسجد “لالة تازيتونت” كانت تُعامل كمقام ذي قداسة أنثوية، رغم غياب ضريح فعلي، إذ ارتبط الاسم والطقوس بمخيال نسوي يرسم للمكان دورًا روحيًا واجتماعيًا، لا يزال صداه حاضرًا في ذاكرة الأمهات والجدات.
الملاح اليهودي: رمز التعايش القروي

إلى جوار السوق، كان يوجد حي يهودي قديم يُعرف بـ”ملاح السوق أوفلا”، وهو دليل إضافي على أن الاسم ارتبط بوظيفة حقيقية، لا مجاز فيها. تواجد اليهود في هذا الحيز المكاني إلى جانب السوق يُبرز تجربة تعايش حقيقي، ساهم في نحت المعالم الاجتماعية والاقتصادية للمنطقة.

طقوس الاعياد الدينية في دوار السوق أوفلا.. حين تنطق التقاليد

في صباح عيد الفطر، يتحوّل دوار السوق أوفلا إلى لوحةٍ من البهجة البسيطة، حيث تُشرق الشمس على أصوات التكبير المنبعثة من مصلى الدوار، في مشهد يختلط فيه الدين بالموروث، والإيمان بالحنين.

بعد أداء صلاة العيد، ينطلق الأهالي، كبارًا وصغارًا، في جولة “تسليم وتبريك”، وهي عادة أمازيغية أصيلة تقوم على تبادل الزيارات بين الجيران والأقارب، وتقديم عبارات التهاني والدعاء.
يتبادل الناس قولهم المعتاد:
ⵍⵄⵉⴷ ⴰⵏⴰⵎⴰⵔ ⵙ ⵜⴷⵓⵙⵉ ⴷ ⵡⵓⵙⵙⴰⵏ ⵥⵉⵍⵏⵉⵏ.
أي: عيد مبارك، بالصحة والسلام، والفرح دائم.

لا يكتفي سكان دوار السوق أوفلا بمراسم التهاني بل يُحيون عادةً قديمة تعبّر عن التلاحم الجماعي، وهي وجبة الغداء في باحة المسجد..مائدة جماعية بطقوس روحية.
يشارك الأهالي في إعداد هذه الوجبة بشكل جماعي، كل أسرة تُحضر طبقًا خاصًا، غالبًا ما يكون من المأكولات المحلية كالكسكس، أو طبق مغربي تقليدي يتميز بإعداده في إناء طيني خاص يسمى “الطاجين” ويتم طهيه على الفحم. يتميز بطريقة الطهي البطيء التي تسمح للمكونات بالاندماج في نكهات غنية ولذيذة.
تُفرش الحصر، في باحة المسجد وتمدّ الأطباق وسط أجواء من البساطة والفرح، ويجتمع الرجال والشيوخ والأطفال حول مائدة واحدة، في مشهد يُعزز روح التضامن.
هذه الوجبة لم تكن مجرد أكل جماعي، بل لحظة رمزية يُستحضر فيها معنى “العيد” كفرصة لتجديد صلات الرحم، ومشاركة الفرح، والتقرب من الله ومن الناس. وكان الإمام غالبًا ما يُلقي كلمة بعد الأكل، تُذكّر بالقيم الروحية للعيد وأهمية الوحدة والدعاء لأبناء الدوار بالبركة.
ورغم أن هذه العادة بدأت تتراجع مع تغيّر أنماط العيش، إلا أن بعض العائلات في دوار السوق أوفلا ما تزال تُحييها كل عام، كأنها آخر ما تبقّى من أيام الجماعة التي لم تندثر بعد.

عيد الأضحى في السوق أوفلا: من الذبح إلى “الجري الكبير”

في صباح عيد الأضحى، كان دوار السوق أوفلا يعيش طقسًا جماعيًا مميزًا، يبدأ بذبح أضحية الإمام بعد صلاة العيد مباشرة في ساحة المصلى “إكي إنرارن”. يتبرع السكان بأجود أنواع الغنم لهذا الغرض، في تعبير رمزي عن التكافل وتقدير مكانة الإمام.
بعد الذبح، كان أربعة شبان يتناوبون على حمل الأضحية مذبوحة، وينطلقون بها جريًا لمسافة تزيد عن 500 متر من المصلى حتى مسجد لالة تازيتونت، وسط هتافات الأطفال وزغاريد النساء، هذا الطقس المعروف بـ”الجري الكبير” كان يمثل لحظة احتفال وفرح جماعي، يعلن انطلاق يوم العيد بطابع خاص.
هذه العادة، وإن قيل فيها ما قيل، ظلت لسنوات طويلة تمثل رمزًا من رموز الانتماء والفرح، وعنوانًا لتلك العلاقة الخاصة بين الدين والمجتمع والاحتفال.
اليوم، لم تعد تُمارَس، لكن ذكراها تسكن قلوب الكبار، وتُروى للأجيال الصاعدة كقطعة من ذهب.

وإلى جانب هذا الطقس، تُمارس العائلات طقوس الذبح في بيوتها، ويتم تحضير أطباق العيد التقليدية، كالكبد المشوي بـ”الدوارة”، و”التقلية”، في أجواء يغلب عليها الطابع العائلي والتقليد القروي المتجذر.

كما تُنظم لقاءات جماعية في ساحة الدوار ، كانت تُسمى قديمًا “إنرارن ن السوق”، أي ساحة السوق، حيث يجتمع الرجال لتبادل الحديث، فيما يتجمهر الأطفال وهم يلبسون ملابس العيد وينشدون أهازيج أمازيغية مرحة.
ما تزال هذه العادات حية، رغم موجات الهجرة وتراجع التجمعات القروية، وكأنها روح صامدة تُقاوم النسيان.

أهمية الاسم في حفظ الذاكرة:

في ظل ما يشهده المجال القروي المغربي من تحوّلات ديموغرافية وثقافية، تبقى أسماء مثل “السوق أوفلا” علامات طوبونيمية ذات قيمة رمزية وتاريخية. فهي ليست فقط دليلًا مكانيًا، بل أيضًا سجلًا شفهيًا حيًا، يختزن تاريخ التعايش، وممارسات الناس، وتراتبية الفضاءات، ويشكل مرجعًا في الدراسات الأنثروبولوجية واللغوية.

خاتمة
دوار السوق أوفلا ليس مجرد اسم محفور على لافتة طرقية، بل عنوان لذاكرة جماعية، تشهد على علاقة الإنسان الأمازيغي بمجاله، وعلى قدرة اللغة على تسجيل تفاصيل الحياة اليومية للمجتمعات الجبلية.
وإذا كان الطوبونيم هو اللغة الخفية للمكان، فإن السوق أوفلا هو صرخة صامتة تقول: أنا هنا، كنتُ مركزًا وذاكرةً، فلا تتركوني أضيع في صمت الخرائط.

الحسين محامد باحث في الطوبونيميا والتراث الأمازيغي

اقرأ أيضا

فتح باب الترشيحات للجائزة الوطنية للثقافة الأمازيغية في صنف الفيلم

أعلنت جمعية مهرجان إسني ن ورغ الدولي للفيلم الأمازيغي عن فتح باب الترشيح لنيل الجائزة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *