بقلم: الحبيب عكي
في الحقيقة، أنا مثل الكثيرين من الناس، لا أحب الخوض في المسألة الفنية عموما والغنائية منها خصوصا، وأرى أن الجدل الملازم لهما على الدوام قد أصبح اليوم عقيما ولا جدوى من اجتراره،خاصة أن جل الناس إن لم يكن كلهم،قد أصبحوا يستهلكون مختلف أنواع الغناء المحلي والأجنبي، في مختلف المراكب والأماكن والفضاءات وبالمناسبات وبدونها، بل ويمارسونه بمختلف الوسائل و مختلف الأشكال والألوان دون خجل ولا وجل ولا أدنى حذر أو احتياط، بلواهم أو سلواهم في ذلك أن أذواقه قد عمت وألوانه قد طمت،وهم ربما لا يستهلكونه إلا ترفا وترفيها على السجية دون طقوس أو خلفية من الخلفيات التي تجعل منه حراما أو حلالا ؟؟.
إلا أن المهرجانات الفنية التي يختلط فيها الحابل بالنابل وتنقلب فيها الموازين مثل”موازين”،أصبح مشروعا إحياء هذا الجدل بقوة وعمق،فحين لا يرى الكثيرون في مهرجان “موازين” غير ديكتاتورية فنية تنضاف إلى كوم من الديكتاتوريات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تطحن البلاد والعباد،أصبح من الواجب أن نتساءل مع المسؤولين هل هذا حرام أم حلال؟؟.و هل هذا حرام أم حلال أيضا،عندما يصر المنظمون والداعمون على تنظيم مهرجان دولي بإيقاعات العالم،هم لا يرون فيه غير الفن والثقافة والترفيه والانفتاح لفائدة طبقات شعبية بالدرجة الأولى،هي بنفسها ترى فيه عكس ذلك تماما،سخافة وتمييعا وتبذيرا فظيعا للأموال العامة والخاصة،لا زال أبناء الشعب وشبابه في أمس الحاجة إليها للتخلص من وطأة الفقر ومعضلة البطالة و هزال البنية التحتية التي لا نهضة ولا تنمية بدونها أوضعفها،وهي رغم كل الجهود المعتبرة،لا زالت تعاني بقوة من قلة الشيء كما يدعون،بل وأيضا من الفساد والتبذير وسوء التدبير بقوة كما لا يدعون؟؟.
وعندما يصعد المنصة مطربون ومطربات بين قوسين،دوليون ومحليون بلا قوسين،لا يشعرون بآلام الشعب ولا يقدمون له فنا قد نبع من همومه،كلمات ملاحمه كتبت بدمائه وشقاء يومه،وترانيمه تتوزع أحلامه وتعانق أماله،وهم طليعة نضاله من أجل الانعتاق والتنمية والتقدم والازدهار الحقيقي والمعياري كما هو متعارف عليه في جميع الدول؟؟،ولكن الذي حدث ويحدث هو العكس،كل جهدهم أنهم يحاولون أن يظهروا على الشعب المسكين مظاهر الفرحة والبهجة والسرور كما ألحت وتلح على ذلك السلطات ودوائرها،وهي بالتأكيد فرحة مزيفة مصطنعة وقرحة عميقة لها ما يبررها،ولكن لا يهم المخرجون والممثلون والكومبارس من كل ذلك غير عائد سهراتهم عليهم بكم،ومتعة أسفارهم عليهم كم وكم،ولذة موائدهم عليهم أيضا بكم،أفتونا أيها المفتون حرام هذا يا قومنا أم حلال؟؟.وعندما لا يعرف الفنانون وأشباه الفنانين ومخنثيهم ومنحرفيهم..،أن الشعب جل الشعب مقاطع لهم ولمهرجانهم ومن منصاتهم قد فر ولفضائياتهم قد هجر،ولكل سياسة التبذير التي ورائهم وثقافة التمييع التي ينشرونها،ويبلغ بهم السفه والخرف أنهم لم يخجلوا من الصياح والهرطقة والعياط والمياط في منصات فارغة أو تكاد حتى أنها لا تجد من يرد صداها غير بعض الحواجز الحديدية الصدئة الصماء،وصفوف من رجال الأمن بكل الأصناف تحسبا للذي في بلطجة المهرجانات قد يحل ولا يحل،على الأقل كان من الحكمة الأخذ بحكمة المثل المغربي وفتوى الفقيه المفتي:”موازين حلال ..موازين حرام..الترك أحسن”؟؟.
من منصة “النهضة” إلى منصة “سلا” إلى منصة “السويسي”..، ما أكثر المنصات حين تعدها،ولكنها في الفرجة والإعلام قليل،مهرجان “موازين” في الرباط،و الموسيقى الروحية في فاس،و”تيميتار” في أكادير..،خلاها مولاها:”حتى حنا عندنا مشاريع، عفوا “موازين” من واد نون لأم الربيع”؟؟.منصة “السويسي”ومنصة”باب بوحاجة”ومنصة”باب الماكينة”ومنصة “حاحة وملاحة”…،ليس في عز الامتحانات ولا في عز المقاطعات الشعبية لبعض المنتوجات الوطنية فحسب،بل في عز إعلان الأحكام القاسية على أبناء حراك الريف،وتلك منصة المنصات التي تربعت في بهوها بفخر واعتزاز وعلى جدها و لهوها شهامة وإباء أوركسترا “الزفزافي”،وحولها الملايين من قلوب المغاربة أبناء الشعب،إنها المنصة الحقيقية وإن لم تكن وحدها فلها مثيلاتها في “جرادة” و”زاكورة” و”الصويرة”..،وكلها منصات غاصة بالجمهور الحقيقي المتعطش لرغيف الخبز الأبيض في الزمن السياسي الأسود،حتى أن منهم من سقط تدافعا مغشيا عليه من قلة الهواء،ومنهن من سحلت وأجهضت جنينها على كيس دقيق،أما السجن والمحاكم والعطش فحدث ولا حرج؟؟.
فعلا،أنا اليوم اخترت منصتي يا وطني،أنا اليوم اخترت منصتك من على جبال الريف،منصة الحراك الراقي والاجتماعي الصرف،تنادى فيها الدكاترة والباحثون الجامعيون وحشود من المواطنين عبر كل المنصات الاجتماعية عبر الوطن،تنادوا حول مطالب سياسية واقتصادية فكرية واجتماعية تحت عنوان:”المجتمع المدني وسؤال معضلة الهجرة”،واسمحوا لي أن أنقل إليكم بعض الأصداء الرائعة والصادقة ولو عبر الأثير،هنا من المركب الثقافي للشمال،وبعيدا عن الدعاية والأضواء،يقول المناضلون والسياسيون والباحثون والدارسون وكافة الفاعلين والمهتمين والخبراء،لا شك أن الهجرة اليوم تشكل معضلة الجهة في الشمال وكل الجهات عبر المملكة الشريفة السعيدة الشهيدة المجيدة،ولا شك أن تاريخ الهجرة والمهاجرين فيه الإيجابي والسلبي والمستحب والواجب،ولكنه لا يكاد يختلف اثنان أن معضلة الهجرة اليوم أمر غير طبيعي اضطراري وليس اختياري،وفظاعة الهجرة أن المهاجر من شدة القهر وانسداد الأفق الفكري والثقافي قبل السياسي والنضالي،يتصور أن وطنه الرحب سجن لابد أن يغادره،وأن بيته الدافىء موبوء لا بد أن يفر منه،وأن مدرسته الحيوية خانقة لابد أن يتركها وفي أي وقت وفي أي سلك وفي أي مسار،ونتيجة الاختيار تقرر القرار و قابل المهاجر المسكين البحر وغيومه وأهواله بوجهه الشاحب،وأعطى ظهره للوطن المعقوف حارقا فيه كل الأوراق والهوية وربما المرجعية والانتماء؟؟.
ويبقى كل الناس مهاجر فمن لم يهاجر إلى الخارج ففي داخل الوطن مهجور و مهجر أو مهاجر،ويهاجر المهاجر إلى دولة الاستقبال ذليلا مهينا وأول ما يصل المواصل يقبل الأرض و يجثو على ركبتيه أمام ساداتها وسدنتها وكهنتها وسماسرتها..،وفي طقوس غريبة ما كان يوما يتصور أنه سيأتيها،يعلن أنه فقير معدم لا وطن له إلا وطنهم فليؤووه وإن في الحدائق والمحطات أو تحت الجسور وعلى قارعة الطرقات؟؟،و يعلن أن لا قيم له غير قيمهم غير البالية،فليعلموه وليغرسوا فيه ما شاءوا من فضلهم حتى لو كانت أفكارا وسلوكات عنصرية إرهابية متطرفة؟؟،ويعلن..ويعلن..ويعلن أن لا عمل له وهو مستعد لأن يعمل في أي شيء..أي شيء وبأي شيء..أي شيء،فقط فليشغلوه ,وإن في المقاهي والملاهي أو حتى دورة المياه و دور العجزة؟؟.ضجيج أرقام مهولة تتحدث عن المأساة وتدين الجميع..الجميع،3286 حالة وفاة في أعالي البحار ما بين 97 و 03،وهو رقم يمثل فقط الثلث المنتشل من الجثث الغرقى،وهو بحجم ضحايا حرب الطرقات؟؟،مليون ونصف مهاجر غير شرعي إلى دول أوروبا وحدها،و 50 ألف إحباط محاولة هجرة سرية في الشواطئ المغربية،و حوالي 10 ألاف طفل قاصر في ملاجئ إيطاليا وإسطبلات اسبانيا،و800 مليون أورو عائدات السمسرة في وهم الهجرة ومافياتها،بما يفوق عائدات تجارة الجنس والمخدرات والأسلحة في السوق السوداء؟؟.
فماذا يمكن لجمعيات المجتمع المدني أن تفعل،وكيف يمكن لتدخلها في التخفيف من المعضلة أن يكون مثمرا وأفضل من غيره من التدخلات:
1- يمكن تأسيس جمعيات أصدقاء المهاجرين للاهتمام والبحث الميداني في الموضوع،خاصة ما يخص محاربة الريع والفساد الذي هو عمق المسألة بما ينخر استقرار البلدان وتنميتها ويقوض فيها العدالة الاجتماعية والمجالية؟؟.
2- المناولة المدنية لمعضلة الهجرة بعيدا عن التعاطي السياسي للدولة ودورها الدركي في المنطقة مقابل حسابات ومساعدات،والتأكد بأن المعضلة قد استفحلت بالمقاربة الأمنية وحدها؟؟.
3- الاطلاع على التجارب الأخرى والمثمرة لبعض الدول مع الهجرة،ومنها هجرة العقول والطاقات والكفاءات،كتجارب تركيا و اليونان وألمانيا وكندا وأمريكا و أمريكا اللاتينية..؟؟.
4- المرافعة الحقوقية لدى الدوائر الحكومية والهيئات المعنية بضرورة توفير الحقوق الاقتصادية والعيش الكريم للمواطنين،وتحصينهم ضد ما يقع للعديد من أبناء الريف،لا دراسة يتمون ولا بوابات الهجرة يعبرون؟؟.
5- توعية الفئات الهشة في المناطق المهددة بالهجرة عبر المشاريع الذاتية والتعاونية البديلة وعبر الأشرطة الوثائقية والأنشطة التربوية والفنية عن التجارب المريرة والأحلام المجهضة للعديد من المهاجرين؟؟.
6- المساهمة في تقديم خدمات اجتماعية للمهاجرين وأبنائهم كتعليم اللغة والتقيد في المدرسة و ولوج المستشفى وغير ذلك من حقوقهم المشروعة ومما سيساعدهم على إيجاد فرصة شغل حقيقي والاندماج الاجتماعي؟؟.
7- تأسيس شركات و جمعيات مواطنة لتشغيل الشباب و تأطيرهم وتكوينهم وتأهيلهم لمساعدتهم على صقل مواهبهم وتفجير طاقاتهم والحفاظ على قيمهم وتفعيلها في حياتهم قبل و فوق كل شيء؟؟.
8- عمل الجمعيات على الاستثمار في العودة إلى طينتنا وملتنا و قيمنا الوطنية وتضامننا الأسري وما عهدناه في أسرنا من عزة وكرامة ومن حماية الأبناء والنساء من كل ما يهددهم،ومن ذلك الهجرة غير الشرعية،حتى لا يتعرضن للمهانة والابتزاز والاغتصاب في مزارع إسبانيا ولا غيرها،ونحن في الحقيقة من يتسبب في ذلك قبل غيرنا؟؟،إني اخترت منصتي يا وطني وانتصبت من على جبال الريف شامخة شاهقة محلقة في الأعالي،فاختر منصتك يا وطني بعيدا عن “النهضة” ففيها سقوطك،وعن “السويسي” ففيها سقمك،وعن “حاحة وملاحة” و”الماكينة” التي فيها طحنك..،لا تحبو على ركبتيك يا وطن ويا مواطن وأنت بفضل الله تستطيع الطيران بجناحيك،فلتكن منصتك منصة أبناء شعبك في “جرادة” و “زاكورة” و “الصويرة”..،ولتكن منصتك منصتنا من على جبال الريف الشامخ أفضل،لأنها في الحقيقة منصة الحاضر والمستقبل؟؟.