الدكتور الحلوي يكتب: نعم، الأمازيغ هم الذين اخترعوا الكتابة الصوتية!

د. عبدالله الحلوي

(بمناسبة اليوم العالمي لحرف تيفيناغ: 19 نونبر)

هدفي في هذا المقال أن أناقش فرضية الأصل الفينيقي لحروف تيفيناغ وأن أبين بأنها فرضية غير صحيحة بالضرورة، باعتبار ما بُنِيت عليه من أدلة، وبأنها فرضية خاطئة باعتبار ما أهملته من أدلة مضادة. سأستنتج من مناقشتي أن كل الأدلة والشواهد الموجودة تؤكد على أصالة حروف تيفيناغ (أي كونها إبداعا خاصا بسكان شمال إفريقيا) وأنها، بالتالي، أقدم نظام كتابي صوتي (فونيمي) نعرفه لحد الآن.

1) ثلاث مقاربات لأصل تيفيناغ

انقسم العلماء الجادون في تأصيلهم لحروف تيفيناغ إلى ثلاث مجموعات:

أولهم: العلماء الذين أكدوا على الأصل الفينيقي لهذا النظام الكتابي الذين من بينهم كارل پراس (أكد على ذلك مثلا في كتاب خصه لنحو الأمازيغية التوارڭية (پراس 1972)). أساس حكم پراس بالأصل الفينيقي لتيفيناغ وجود ستّة تشابهات بين النظامين (وسآتي على ذكر هاته التشابهات لاحقا في هذا المقال)، واسم “تيفيناغ” الذي يشبه “فيناق” التي قد تكون إشارة إلى القوم الذين استُعير منهم هذا الخط.

ثانيهم: العلماء الذين تبنووا فكرة الأصل الفينيقي لتيفيناغ لكنهم أضافوا إلى ذلك أن الأمازيغ طوروا هذا الحرف بشكل بشكل مبدع جعله يبتعد شيئا فشيئا عن أصله الفينيقي. من هؤلاء الذين تبنَّووا هذه المقاربة المعتدلة نظريا نجد الأنتروپولوجي النمساوي وورنر بيتشلر (بيتشلر 2000 ـــ 2003). وخلاصة مقاربته أن كل الأدلة (وسأقوم بتلخيص هذه الأدلة وانتقادها بعد قليل) تشير إلى أن حروف تيفيناغ اشتقت من الحروف الفينيقية القديمة فقام الأمازيغ بإجراء بعض التعديلات عليها لأسباب جمالية ( = بجعلها أكثر تماثلا)، وأسباب وظيفية (= بجعلها قابلة للنحت).

وثالثهم: العلماء الذين من بينهم ڭابرييل كامپ والذين أضناهم البحث عن أصول تيفيناغ فخرجوا بنتيجة حذرة متشككة مفادها “أن أصل الخط الليبي [تيفيناغ] يطرح مشاكل غير قابلة للحل” معترفين بأن ليس هناك فرضية نثق فيها ثقة كاملة تفسر لنا ظهور تيفيناغ تفسيرا مقنعا ينسجم انسجاما تاما مع الشواهد العلمية التي بين أيدينا.

2) “الأدلة” على الأصل الفينيقي ل”تيفيناغ”

اعتمد العلماء الذين افترضوا الأصل الفينيقي لحروف تيفيناغ على سبعة أنواع من الأدلة (الحجج) جمعها شاكر في مقال له (نشر سنة 2000 في كتابي جماعي عنوانه Etudes berbères et chamito-sémitiques) سأقوم بإعادة صياغتها بشيء من التصرف في السطور التالية لأبين بعد ذلك وجه الضعف والفساد في هذه “الأدلة”:

الدليل الأول الذي استعمله مُدّعو الأصل الفينيقي لحروف تيفيناغ هو دليل “الحاجة”، ومقتضى هذا الدليل أن قدماء الأمازيغ كانوا أساسا رُعاة وفلاحين يعيشون في إطارأنظمة اجتماعية مغلقة نسبيا، بينما كان الفينيقيون تجارا وبحارين ينتقلون من مكان إلى مكان. لذلك فالفينيقيون كانوا أحوج لنظام كتابي يوثقون به تعاملاتهم التجارية ويمارسون به المراسلة في المسافات البعيدة. وعليه، فإن الأرجح أن يكون أصل تيفيناغ هو الحروف الفينيقية لحاجة أهلها لاستعمالها استعمالا وظيفيا يتأرجح بين المراسلة (فهم بحارة) والتوثيق (فهم تجار) فاستعمال الكتابة كان احتياجا وظيفيا أساسيا بالنسبة للفينيقيين (والحاجة أم الضرورة كما يقال) ولم يكن كذلك بالنسبة للأمازيغ الذين يغلب على نمط حياتهم نمط الإنتاج الرعوي والفلاحي.

الدليل الثاني الذي استعمله مُدّعو الأصل الفينيقي لحروف تيفيناغ هو الدليل “التاريخي”، ومقتضى هذا الدليل أن أقدم نقوشات تيفيناغ التي نعرفها تعود إلى زمن متأخر على زمن استقرار الفينيقيين في شمال إفريقيا. فقد بنيت مدينة قرطاجة، مثلا، سنة 814 قبل الميلاد بينما توجد مدن فينيقية في المنطقة تعود إلى نهاية الألفية الثانية قبل الميلاد. مما قدر يرجح أن تيفيناغ جاءت بتأثير من الوجود الفينيقي وليست قبله، خصوصا أن أقدم النقوشات الليبية في منطقة نوميديا لا يمكن إرجاعها إلى زمن متقدم عن القرن الثاني قبل الميلاد.

الدليل الثالث الذي ساقه مدعو الأصل الفينيقي لتيفيناغ (وهذا هو الدليل “الجغرافي”) أن الأغلبية الساحقة لنقوشات تيفيناغ التي نتوفر عليها اليوم أتت من مناطق قريبة تأثرت بقرطاجة والثقافة البونيقية. أي شمال تونس وشمال القسطنطينية. هذا على الأقل هو ما يتضح من خلال المتون الليبية التي جمعها علماء مشهود لهم مثل شابو وڭالان (1966) وبنعبو (1976) وكامپ (1996).

الدليل الرابع هو “الدليل التطوري” وفحواه أن نظام الكتابة تيفيناغ صوتي phonemic ، بمعنى أن كل حرف من الحروف يمثل صوتا معلوما. والمعلوم أن الأنظمة الكتابية تطورت من أنظمة غير صوتية تستعمل الرموز التصويرية (كالهيلوغريفية المصرية، والبوينقية القديمة نفسها) إلى أنظمة مقطعية ثم إلى أنظمة صوتية. فأن يبدأ الأمازيغ تاريخ الكتابة عندهم بنظام صوتي لا سابق له يفترض أن لهذا الشعب ذكاء وعبقرية غير طبيعيين. لذلك يرجح أن يكون نظام تيفيناغ مشتقا من نظام آخر نعلم أنه جاء من أنظمة غير صوتية.

الدليل الخامس (وهو دليل “هندسي”)، وهو دليل يبدو “ملموسا”، أن هناك حروفا متشابهة بين النظامين الأمازيغي والفينيقي بشكل كبير بحيث لا يمكن أن يكون هذا التشابه مجرد صدفة (أنظر الصورة الأولى) فالتاء في كلا نمطي الكتابة خطان متقاطعان. والزين شبيهة بخط عمودي مغلق بزاويتين (أو قوسين) علوية وسفلية في تيفيناغ، وبخطين أفقيين صغيرين في البونيقية. والشين شبيهة بالحرف اللاتيني E في كلا النظامين. والدال مثلث مغلق في البونيقية وزاوية مفتوحة إلى أعلى أو إلى أسفل في تيفيناغ. والباء مثلث صغير مذيّل بزاوية قائمة منفتحة نحو اليمين ودائرة مقسومة بقطر أفقي في تيفيناغ.

الدليل السادس دليل “لساني” وفحواه أن اللغات السامية (والبونيقية لغة سامية تحدث بها الكنعانيون الذين كانوا يسكنون لبنان وشمال سوريا المعاصرتين) بحكم نظامها الصرفي الإشتقاقي لم تكن تعط أهمية للحروف المتحركة وحروف العلة لأن أهم ما في الكلمة هو الجذر، بينما الأمازيغية التي يمكن أن تتكون الكلمة فيها من حرف ساكن واحد أو إثنين (كما في أفعال /دّ/ “ذهب” و /لّ/ “كان”) فإن الحروف المتحركة حاجة قصوى. فلا يمكن للقوم أن يخترعوا نظاما غير ملائم للغتهم وملائم للغات غيرهم.

الدليل السابع دليل إيتيمولوجي، وهو أن اسم “تيفيناغ” الذي استعمله التوارڭ بدءاً لتسمية الحروف المستعملة في كتابة الأمازيغية يدل بذاته على أصل هذه الحروف. فلفظة “تفيناغ” في صيغة الجمع مفردها “تافيناغت”. وبما أن الوحدة الصوتية /غ/ كانت في الأمازيغية القديمة مجرد بديل صوتي (ألوفون) للصوت /ق/، فإن الجذر المكون ل”تيفيناغ” هو [فنق] قد تكون تسمية استعملها الأمازيغ القدماء للفينيقيين الذين طوروا الحروف الفينيقية القديمة (ربما من النظام الهيلوغريفي المصري).

3) نقد “الأدلة” على الأصل الفينيقي لتيفيناغ

سأبين من خلال الفقرات التالية أن كل “الأدلة” التي أوردها مدّعو الأصل الفينيقي لتيفيناغ إما أنها أدلة فاسدة بقدر ما هي مبنية على تأويل غير صحيح للمعطيات، أو أنها أدلة ناقصة تُغفِل معطيات أخرى مهمة ربما لم يكن الباحث على علم بوجودها.

3ــ1) نقد دليل “الحاجة”

من مشاكل دليل “الحاجة” أنه لم يدرك أن لتيفيناغ في منطقة موريطانيا (المغرب المعاصر) وظيفة اجتماعية حيوية تبرر احتياج قدماء الأمازيغ لاختراع نظام خطي للتواصل. فإذا كان الفينيقيون يحتاجون الكتابة في مراسلاتهم وتوثيق معاملاتهم التجارية، فإن قدماء الأمازيغ كانوا يحتاجونها في التخابر حول مجالهم الحيوي خارج العشيرة وهم يرعَوْن أو يصطادون أو يرحلون إلى مكان آخر. من ذلك أن معظم نقوشات تيفيناغ التي حلل شفرتها عبد ربه صاحب هذا المقال (مثلا: نقيشة OUK 1 التي يبين فيها صاحب النقش كيفية اصطياد الفيل، ونقيشة “أسيف ويڭان” التي تحذر من وجود وحش مختبئ، ونقيشة سيدي جعفر 1 التي تشير إلى وجود الجبس في مكان تواجدها). المشكلة في دليل “الحاجة” إذن أن أصحابه يفترضون أن وظائف بعينها هي وحدها يمكن أن تكون وظائف للكتابة، ويغفلون أن ل”تيفيناغ” وظائف أخرى لم يأخذوها بعين الإعتبار. فيكون دليل “الحاجة” دليلا فاسدا لا قيمة له في إثبات أصل تيفيناغ.

3ــ2) نقد الدليل “التاريخي”

المشكلة في الدليل “التاريخي” أنه مبني على افتراض أن المنقوشات الليبية (التي من بينها نقيشة ضريح ماسينيسا المكتوبة بالفينيقية والليبية كليهما) والتي لا يمكن أن تعود إلى ما قبل 200 سنة قبل الميلاد هي أقدم المنقوشات الموجودة لدينا. إلا أن اكتشاف “مالهولم” لنقيشة “أعزيب ن إكيس” بجبال الأطلس الكبير المغربي والتي تعود إلى ما يزيد على 500 سنة قبل الميلاد غيرت من نظرة العلماء لتاريخ تيفيناغ (ڭابريل كامپ 1996) فأصبحوا يفترضون أن ظهور تيفيناغ هو متقدم كثيرا عن ظهور النقائش الليبية. نفس النتيجة أكدتها مليكة حشيد بخصوص نقائش الأطلس الصحراوي والتي أرجعتها إلى حوالي 1500 سنة قبل الميلاد.

3ــ3) نقد الدليل “الجغرافي”

من أوجه ضعف الدليل “الجغرافي” أنه يغفل معطى ملموسا وهو أن أقدم النقائش التي اكتشفت لحد الآن (أعزيب ن إيكيس، أوكايمدن، الأطلس الصغير) ليست قريبة من مناطق نفوذ الفينيقيين (قرطاجة مثلا) بل بعيدة عنها، وليست ساحلية كمناطق تأثير الفينيقيين بل داخلية، وليست سهلية كمدن الفينيقيين بل جبلية. لذلك فإنه إذا كان عدد النقائش المكتشفة قرب مناطق النفوذ الفينيقي كبيرا جدا بالمقارنة مع عدد النقائش المكتشفة في الداخل، فإن ذلك ليس بسبب تأثر الأمازيغ بالحرف الفينيقي بل بسبب توسع استعماله وتعميمه في هاته المناطق (بعد أن كان مستعملا في الجبال الداخلية فقط) ربما رغبة من الأمازيغ في تمييز نفسهم هوياتيا وسياسيا عن الفينيقيين.

3ــ4) نقد الدليل “التطوري”

الدليل “اللساني” ضعيف من أوجه متعددة. أولها أن عدم توفرنا على معطيات حول النظام غير الصوتي السابق لتيفيناغ لا يعني بالضرورة أنه مشتق من نظام كتابي آخر نعلم من أي الأنظمة التصويرية جاء. فهذا دليل “مبني على الجهل بالشيء” argument from ignorance وثانيها أن خط تيفيناغ مشابه في بنائه للنقوشات الإستطيقية الأمازيغية التي تعتمد في صيغتها المتأخرة على استعمال الدوائر والتنقيط. بل إن حرف “ياز” نفسه استعمل في النقش الأمازيغي للتعبير عن أنتروپومورفيا الشكل الإنساني (شاكر 2000). فإذا تأملت مليا في الصورة الثانية (التي أمدنا بها الدكتور عبدالمجيد أهرا مشكورا) فإنك لن تستطيع التبين بدءا مما إذا كانت نصا مكتوبا قابلا للتأويل أم مجرد نقش لتزيين الجزء الأعلى لإطار الباب (وحقيقتها أنها مجرد ثيمات تزيينية لا علاقة لها بتيفيناغ).

من أوجه الضعف في هذا الدليل أيضا أنه يفترض استحالة اختراع شعب من الشعوب لنظام صوتي بدون مروره من مرحلة النظام التصويري أو المقطعي. ستتلاشى الأهمية التي نعطيها لمثل هاته الأدلة بمجرد أن نتذكر المعطى التالي: وهو أن النظام الكتابي (كيفما كانت طبيعته: صوتي أو تصويري أو مقطعي) الذي تستعمله عشيرة أنتروپولوجية معينة هو تمثيل ڭرافي ثنائي البعد للكلام، وأن طريقة التمثيل تتوقف على ما يسلط عليها “عقل” العشيرة انتباهه: فإذا ركز انتباهه على الكلمات ومعانيها، فإنه سيخترع نظاما يمثل الوحدات المعجمية (كالأنظمة التصويرية)، وإذا ركز على الوحدات الصوتية المقطعية (كالمقطع أو النبر)، فإنه سيخترع نظاما يمثل الوحدات المقطعية، وإذا ركز على الأصوات وسعى إلى “تقليدها” ڭرافيا فإنه سينتهي إلى اختراع نظام كتابي صوتي (فونيمي) يمثل الأصوات تمثيلا نسبيا فيكون تطوره لا بتحوله إلى نظام من نوع آخر، بل إلى نظام أقدر على تمييز أصوات اللغة عن بعضها البعض. فمن الغريب أن يفترض بعض الأنتروپولوجيون استحالة إنشاء نظام كتابي فونيمي بشكل مباشر بينما تستعمل اللغة الإنسانية نفسها نظاما تجزيئيا يستخدم الأصوات المفردة لبناء الكلمات. فأن يخترع الأمازيغ نظاما كتابيا (فونيميا) لا يدل على أية “عبقرية” أو “فرادة” لا يرضونها لسكان شمال إفريقيا، بل مجرد اختيار “پاريميتري” لنوع من التمثيل الڭرافي مبني على تمثيل الأصوات قد يكون هو أكثر “بدائية” من التصوير اللوڭوفوري التصويري.

3ــ5) نقد الدليل “الهندسي”

أوجه ضعف الدليل “الهندسي” كثيرة إلى درجة أن المرء يتعجب كيف يكرره بعض العلماء. أول أوجه ضعفه أن تشابه بعض حروف تيفيناغ والحروف الفينيقية قليل. من ذلك مثلا ما يدعيه القوم من تشابه الباء الأمازيغية (التي تستعمل الدائرة) والفينيقية التي لا تدوير فيها أصلا. ومن ذلك أيضا أن الدال الأمازيغية تشبه إلى حد التطابق الڭاف البونيقية (وليس الدال البونيقية كما ادعووا)، فلا معنى لأن يقلد الأمازيغ حرفا بمحتوى صوتي غير ذاك الذي يُرمَز إليه به في نظامهم. ومنه أيضا أن مقارنة تنويعات الزاي المختلفة في التنويعات الجهوية للكتابة الأمازيغية تبين أن هذا الحرف قد تطور من نصف مستطيل مفتوح من تحت بخط صغير يقطع هذا المستطيل إلى نصفين متساويين (أشبه ما يكون بحرفE في اللاتينية ضلعه الأطول من فوق)، يستعمل بهذا الشكل في تنويعات الليبية الشرقية والغربية والصحراء. من أوجه ضعف هذا الدليل أيضا أن التاء البونيقية كانت تستعمل في الهيلوغريفية القديمة والپروتوــ سينائية حيث كانت تسمى ب “تاو” و”تاب” و”تاڤ” التي تعني “العلامة” أو “الخاتم”. فلماذا لا نستنتج من ذلك أن الأمازيغ استعاروا هاته التاء من المصريين، أو أن المصريين استعاروها من الأمازيغ؟

إلا أن أقوى دليل ضد الدليل “الهندسي” هو ما أسميه بدليل “المشترك”. وفي ما يلي صياغة لدليل “المشترك”:

1ــ صنف ڭالان Galand 9 تنويعات من تنويعات تيفيناغ وهي تنويعات “الليبية الشرقية” “والليبية الغربية” و”الصحراوية” و”الهوڭار” و”الغات” و”أدرار” و”آير” و”إولمدان” و”تانسلمت”.

2ــ عندما نقارن بين هاته التنويعات نلاحظ أن هناك على الأقل 3 حروف متطابقة تطابقا كاملا لا شبهة فيه وهي الباء والراء والميم.

3ــ بما أن هذه الحروف الثلاثة متطابقة في تسع تنويعات مستعملة في مناطق متباعدة جغرافيا (تأمل المسافة بين شرق ليبيا وأدرار في الجزائر مثلا)، فلا شك أنها لم تتغير منذ المراحل الأولى لظهور تيفيناغ، فلا يمكن أن تتواطأ قبائل متباعد مجالها الجغرافي على رموز بعينها.

4ــ لا توجد هاته الحروف المشتركة في البونيقية.

5ــ لذلك يستحيل أن يكون أقدم شكل لتيفيناغ قد اشتُقّ من الحروف البونيقية.
وعليه فإن الدليل “الهندسي” فاسد لا يثبت الأصل الفينيقي لتيفيناغ، ومردود عليه بدليل “المشترك”.

3ــ6) نقد الدليل “اللساني”

الدليل “اللساني” في نظرنا أضعف الأدلة كلها، أولا لأن الأمازيغية اشتقاقية لا شبهة في ذلك. وثانيا لأن عدم استعمال اللغات السامية للحروف المتحركة لم يكن بسبب استغنائها عنه وظيفيا، بدليل استعمال العربية للواو والألف والياء لتمثيل الحروف الساكنة الطويلة (حروف المد) وبدليل اضطرار هذه اللغات لإدماج أنظمة رمزية لتمثيل الحروف المتحركة في مراحل متأخرة من تاريخها. لذلك فعدم استعمال الأمازيغ للحروف المتحركة لم يكن أنقص وظيفيا من عدم استعمال البونيقية لها في مراحل متقدمة.

3ــ7) نقد الدليل “الإيتيمولوجي”

يوضح شاكر أربعة أوجه لضعف هذا الدليل. أولهما أن لا يمكن الإستدلال على أصل نظام خطي من تحليل إيتيمولوجي (أي تحليل للمعنى القديم المنسي للفظة من الألفاظ) للإسم الذي يطلق عليه خصوصا إذا لم تكن هناك أدلة ملموسة وموضوعية تنسجم مع هذا التحليل الإيتيمولوجي. وثانيهما أن الأمازيغ استعملوا حروفهما لتمييز لغتهم هوياتيا وسياسيا عن غيرها فكيف يفعلون ذلك ويسمونها باسم شعب غيرهم؟ وثالثها أن الفعل الدال على الكتابة في الأمازيغية (وهو فعل “أرو” الذي منه “تيرا” تعني “الكتابة”) فعل موجود في جميع اللهجات الأمازيغية مهما كان المجال الجغرافي الذي تتواجد فيه. مما يعني أن ما يدل على عملية “الكتابة” كان عند الأمازيغ منذ القديم. فلو لم يكن هذا الفعل الثقافي متجذرا في التاريخ الأمازيغي الأقدم لوجدنا الفعل المعبر عنه في بعض الجهات دون غيرها، ولاستعمل الأمازيغ فعلا استعاروه من لغات أخرى كاللاتينية والعربية أوغيرهما. ورابعها أن فعل “أرو” في الأمازيغية كان يستعمل استعمالا خاصا بمعنى “قطع” entailler، مما يشير إلى أن فعل الكتابة عند الأمازيغ كان مرتبطا ب”النحت” و”النجارة” و”تقطيع الصخور”. لهذا فإن لفظة “أفنيق” عند القبايليين تستعمل بمعنى “الصندوق المنزلي المستعمل في التخزين” (منه على الأرجح لفظة “البنيقة” في المغرب التي معناها “الفضاء الضيق”)، مما يحيلنا على الوظيفة الجنائزية التي كان يلعبها حرف تيفيناغ، خصوصا في نوميديا وليبيا، إذ كان يستعمل ك epitaphs (المرثيات القبرية).

خلاصة

خلاصة نقدنا لحجج المُتبنّين لفرضية الأصل البونيقي لتيفيناغ أن دليل “الحاجة” لا يستقيم لأن لتيفيناغ في بداياتها وظيفة مرتبطة بالمجال الحيوي للإنسان الأمازيغي، وأن الدليل “التاريخي” لا يستقيم لأن تيفيناغ أقدم مما ظنوا، وأن الدليل “الجغرافي” لا يستقيم لأن أقدم مواقع منقوشات تيفيناغ بعيدة عن مناطق نفوذ القرطاجيين وداخلية وجبلية وليست ساحلية سهلية، وأن الدليل “التطوري” لا يستقيم لأن تيفيناغ منغرسة في التربة الثقافية الفنية للأمازيغ ولأن البدء بنظام صوتي لا سابق تصويريا (وأ يديوڭرافيا أو لوڭوفريا) له أمر ممكن، والدليل “الهندسي” لا يستقيم لأن دعوى التشابهات بين تيفيناغ والنظام الكتابي البونيقي فيها تكلف كثير ولأن “المشترك” بين تنويعات تيفيناغ لا توجد في النظام الكتابي الفينيقي، والدليل “اللساني” لا يستقيم لأن الأمازيغية اشتقاقية يعيب نظامها الكتابي الأصلي كل ما يعيب أي نظام كتابي استعمل لتمثيل أي لغة اشتقاقية، والدليل “الايتيمولوجي” لا يستقيم لأن معنى “تيفيناغ” مرتبط بأصل يعني “النحت” “والتقطيع” وما جانسهما من المعاني، ولأن الأمازيغية تتضمن فعلا قديما جدا يوثق لممارسة الكتابة في هذه الثقافة.

نتيجة

النتيجة التي لا مهرب منها أن “تيفيناغ” إبداع محلي. لقد اخترع الأمازيغ أقدم خط صوتي (فونيمي). اخترعوا أول نظام خطي فونيمي لكنهم لم يطوروا استعماله للخروج بشكل منهجي من الثقافة الشفاهية … لقد آن الأوان للخروج بتيفيناغ من التعبير الهوياتي إلى بناء ثقافة عالمة. وهذا بدون شكل هو ما يقاومه الأعداء التقليديون للثقافة الأمازيغية.

اقرأ أيضا

“الصحافة والإعلام في ظل الثورة الرقمية: قضايا وإشكالات” شعار المؤتمر الدولي الأول بوجدة

تنظم شعبة علوم الإعلام والتواصل الاستراتيجي التابعة لكلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة محمد الأول بوجدة، …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *