يخلد الشعب المغربي ومعه أسرة الحركة الوطنية والمقاومة وجيش التحرير، غدا الجمعة 7 أبريل 2023، الذكرى 76 للأحداث الدامية التي عاشتها مدينة الدار البيضاء يوم 7 أبريل 1947.
ويتعلق الأمر بمناسبة لاستحضار نضالات أبناء الدار البيضاء في مسيرة الكفاح الوطني ومعترك المقاومة وساحة الشرف والتحرير.
ففـي مثل هذا اليوم من شهر أبريل 1947، أقدمت قوات الاحتـلال الأجنبي على اقتراف مجزرة رهيبة في حق ساكنة الدار البيضاء للحيلولة دون قيام جلالـة المغفـور له محمد الخــامس رضوان الله عليه بزيـارة الوحـدة التاريخيـة لمدينة طنجـة يوم 9 أبريل 1947.
تلك الرحلة الميمونة تروم تأكيد مطالب المغرب المشروعة في نيل حريته واستقلاله وتحقيق وحدة ترابه الوطني وتمسكه بانتمائه العربي والإسلامي.
الذاكرة التاريخية الوطنية تختزن أحداثا مشهودة من أيام هذه المدينة المناضلة، المشهود لها بالغيرة الوطنية ونكران الذات والتضحيات الجسام التي بذلها أبناؤها في رياض العمل الوطني والمقاومة والتحرير، دفاعا عن المقدسات الدينية والثوابت الوطنية، وتحديا لسلطات وقوات الاحتلال الأجنبي أثناء مواجهات يوم 7 أبريل 1947، إذ تصدى البيضاويون بكل إيمان وشجاعة وإقدام لحملات التنكيل والتقتيل التي شنتها ضدهم القوات الاستعمارية بدوافع انتقامية وعدوانية.
لقد اختلقت السلطات الاستعمارية أسبابا أوهن من بيت العنكبوت، ليدفع فيليب بونيفاص رئيس ناحية الدار البيضاء جنوده وزبانيته إلى ترويع وتقتيل المواطنين بكل من أحياء ابن مسيك وكراج علال ومديونة ودرب الكبير والأحياء المجاورة دون تمييز بين أطفال وشيوخ ونساء، فسقط المئات من المواطنين بين شهداء وجرحى ومعطوبين، واعتقل العديد من النشطاء الوطنيين والنقابيين والمناضلين وعموم المواطنين.
بيد أن بطل التحرير والاستقلال والمقاوم الأول، جلالة المغفور له محمد الخامس طيب الله ثراه، تحدى قوات الاحتلال الغاشم، وأدرك أبعاد وأهداف المؤامرة الدنيئة التي أقدمت عليها سلطات الإقامة العامة للحماية الفرنسية، فتوجه إلى مدينة الدار البيضاء ليواسي عائلات الضحايا، ثم بعد ذلك إلى مدينة طنجة للقيام بزيارته في موعدها المقرر، محبطا بذلك مناورات السلطات الاستعمارية.
كما ألقى طيب الله ثراه، خطابـه التاريخي في 11 أبريل 1947 بطنجة، والذي أكد فيه للعالم إرادة الشعب المغربي وعزمه على المطالبة بحريته واستقلاله، معلنا أن المغرب متمسك بسيادته ووحدته وصون كيانه الوطني.
وكان من آثار أحداث 7 أبريل 1947 الدعوة إلى تنفيذ إضراب عام بالمدن المغربية، وتعبئة فعاليات المجتمع المغربي لتقديم العون والمؤازرة للعائلات المتضررة، وتعزيز المواقف المنددة بالاحتلال الأجنبي، وشجب مؤامراته التي أودت بحياة الأبرياء وعكرت صفو عيش المواطنين.
غير أن هذه الأحداث المؤلمة زادت في تأجيج الروح الوطنية وإذكاء مشاعر النضال الوطني لإنهاء الوجود الاستعماري وإصرار العرش والشعب على مواصلة الكفاح الوطني، خاصة إثر إقدام السلطات الاستعمارية على نفي الملك الشرعي جلالة المغفور له محمد الخامس وأسرته الشريفة يوم 20 غشت 1953 إلى المنفى السحيق، فلم تهدأ ثائرة الشعب المغربي وطلائعه في المقاومة إلا بعودة العاهل المفدى إلى عرشه ووطنه، حاملا لواء الحرية والاستقلال.
وفي يوم تخليد أحداث الدار البيضاء الدامية، وجبت الإشارة إلى أن معركة الجهاد والكفاح والنضال ضد محاولات التسرب والتدخل الأجنبي في شؤون البلاد والعباد لم تكن وليدة القرن العشرين، بل بمجرد أن استتب الأمر للاحتلال الفرنسي بالجزائر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، حتى توجهت أنظاره واشرأبت أعناق أطماعه صوب المغرب، فدخلت قواته العسكرية في مناوشات وتربصات على حدوده وثغوره لتتوالى الهزائم العسكرية التي تعرض لها بدء بحربي إيسلي (1844) وتطوان (1859-1860).
ومنذ ذلك الحين أصبح المغرب ميدانا للمناوشات والمواجهات وعقد التسويات، وهكذا اعتبرت فرنسا أن جوارها للمغرب يمنحها حقوقا ليست لغيرها من الدول، وأن الجزائر التي قادتها إلى تونس عليها أن تقودها أيضا إلى المغرب، لذلك حاولت تكثيف جهودها للسيطرة عليه، ولجأت إلى سياستي المطالبة بالإصلاحات والقروض، وقد أعطت هذه السياسة أكلها، حيث إن قرضا سنة 1904 سمح للمراقبين الفرنسيين بالجلوس إلى جانب أمناء الموانئ المغربية لاستخلاص الدين الفرنسي.
وبعد مؤتمر الجزيرة الخضراء سنة 1906 وما أسفرت عنه مخرجاته من إطلاق يد فرنسا على المغرب، أصبحت هذه الأخيرة تبحث بكل الآليات والوسائل المشروعة وغير المشروعة عن ذريعة تمنحها حق التدخل في شؤونه الداخلية.
وهكذا ،انتهزت حدث مقتل أحد عملائها في مراكش وهو الطبيب “موشان” لتقصف مدينة فكيك وتحتل مدينة وجدة في مارس 1907 انطلاقا من الحدود الجزائرية، وهي نفس الذرائع التي استغلتها حينما توسعت في واحة توات سنة 1900 بدعوة ملاحقة المتمردين والمتعاونين مع الأمير عبد القادر الجزائري.
وذات الادعاءات والمبررات وظفتها فرنسا وهي تشن غارتها البحرية على مدينة الدار البيضاء التي تعرضت لدمار وتخريب شاملين من طرف المدفعية الفرنسية يومي 5 و7 غشت سنة 1907 على إثر حدث مقتل تسعة عمال أجانب من طرف الأهالي، الذين كانوا يقومون بأعمال بناء خط السكة الحديدية منتهكين حرمة مقبرة قديمة للمسلمين، وهو ما اعتبر تدنيسا للمقدسات الدينية للمغاربة.
هذا الغزو الذي تعرضت له المدينة إن كان يبدو في ظاهره أنه رد فعل تجاه الأعمال التي قام بها سكان الدار البيضاء تجاه شركة البناء التي كانت تعتزم ربط مرفأ الميناء بالرصيف، إلا أنه في واقع الأمر كان فكرة راودت القوى الاستعمارية الفرنسية منذ 1903، والمتمثلة في السيطرة على أحد أهم المراكز التجارية البحرية في شمال أفريقيا، ميناء الدار البيضاء الذي قال عنه “لوموان” Le Moine: فميناؤها واسطة عقد الموانئ المغربية المفتوحة للتجارة، ويوجد وسط سهول الشاوية الخصبة”.
فما إن احتلت جحافل القوات الفرنسية مدينة الدار البيضاء في 7 غشت 1907 وتوجهت أنظارها للزحف نحو بسيط الشاوية لاحتلالها، حتى سارع أبناء هذه الربوع المجاهدة إلى حمل السلاح والدعوة للتعبئة الشاملة والجهاد في صفوف القبائل المجاورة، حيث جوبهت قوات الاحتلال الفرنسي في معارك عدة.
من هذه المعارك، معركة دار بوعزة في 28 غشت 1907، ومعركة سيدي مومن في 3 شتنبر 1907 ،ومعركة السطات الأولى في 15 يناير 1908، ومعركة عين مكون في 24 يناير 1908، ومعركة دار قصيبات في 2 فبراير 1908 ،ومعركة سيدي الجبلي ومعركة مديونة في نفس السنة.
هذه المحطات النضالية الغراء وغيرها تشهد على رفض الشعب المغربي للغزو الفرنسي لأراضيه ومناهضته للوجود الاستعماري والاحتلال الأجنبي، لتلوح بعد ذلك تباشير النضال السياسي الذي برزت ملامحه بالمدن، قبل اتساعها لتعم القرى والمداشر بفضل حملات التحسيس والتنوير ونشر الوعي الوطني وإلهاب الحماس الشعبي في صفوف الشباب وسائر فئات وشرائح المجتمع المغربي بكافة مشاربه وأطيافه، لإذكاء الهمم والعزائم ولمواصلة النضال الوطني من أجل الانتصار للقضية الوطنية التي هي حرية الوطن وسيادته واستقلاله ووحدته.