في كل مرة أسمع فيها أحدهم يدافع عن العبودية، تتملكني رغبة جامحة في تعريضه لشكل من أشكالها حتى يفهم معناها.” أبراهام لينكولن.
يعتبر أبراهام لينكولن (1809 – 1865)، أهم شخصية محورية في التاريخ الأمريكي، فقد تجاوز ثقل حضوره في المخيال الجمعي للأمريكان، حضور الآباء المؤسسين من أمثال جورج واشنطن وتوماس جيفرسون. فالرئيس السادس عشر للولايات المتحدة الأمريكية، أنقذ بلاده من انفصال جنوبها عن شمالها، كما سُجلَ اسمه في التاريخ كمهندس شجاع للتعديل الثالث عشر في الدستور الأمريكي، والذي نص في فقرته الأولى، على أنه تحرم العبودية والخدمة الإكراهية فيما عدا كعقاب على جُرم حُكمَ على مقترفه بذلك.
أبراهام لينكولن إضافة إلى هذين الإنجازين الضخمين وإنجازات أخرى لا يتسع المجال لذكرها، ارتبط اسمه بوعد تاريخي قطعه على نفسه للسود الأمريكان مقابل انخراطهم في الحرب الأهلية (1861 – 1865) إلى جانب حكومة الشمال الفدرالية ضد انفصاليي الجنوب. وقد كان مضمون الوعد “بغل وستة عشر هكتارا من الأراضي” تسلم للعبيد المحررين كتعويض لهم عن عشرات السنين من العبودية والإستغلال، ودعما لهم من الدولة لمواجهة حياة المواطنة والحرية في أحسن الشروط. فهل وفى لينكولن بوعده للسود؟ ما العلاقة بين هذا الوعد والمظاهرات الأخيرة ضد العنصرية في بعض الدول الأوربية وأمريكا؟ وهل من درس نستفيد منه مغربيا من حكاية بغل أبراهام لينكولن؟
بالنسبة للكثير من الدارسين والمهتمين بتاريخ أمريكا، يصعب التشكيك في نوايا الرئيس أبراهام لينكولن وهو يفي بوعد “البغل وستة عشر هكتار من الأراضي”، خصوصا وأنه قاد حربا أهلية ضد الجنوب الأمريكي المصر على استمرار العبودية. لا يمكن للرئيس لينكولن إلا ان يكون صادقا وهو الذي كلفت الحرب حكومته 600 ألف قتيل وخسائر اقتصادية فادحة. فسيرته تؤكد بأنه كان ذا مشروع سياسي طموح يروم إخراج المواطنين من أصل افريقي من وضعية السلَع للارتقاء بهم إلى مراتب المواطنة والفعل الحر، للمساهمة في بناء أمريكا جديدة. فأسباب عدم الوفاء بوعده يجب البحث عنها في اغتياله مباشرة بعد الإنتصار على الجنوب المدافع عن العبودية، وفي الحضور القوي لمناهضي تجريم العبودية سواء داخل البيروقراطية الأمريكية أو في اوساط الطبقة السياسية ولوبيات الإقتصاد والمال.
مات أبراهام لينكولن، سنة 1865، وأسقطت البيروقراطية وحلفائها في أوساط السياسة والإقتصاد والمال وعده للسود. بعد موته بسنوات قليلة، اكتسح مناصرو العبودية الانتخابات في الجنوب الأمريكي، وأبقوا على الميز العنصري والتمييز لمدة قرن كامل حتى حدود سنة 1960. بعد مكاسب حركة الحقوق المدنية التي قادها “مارتان لوتر كينغ” في ستينيات القرن الماضي لم يفتح ملف جبر الأضرار، واستمر منطق أشباه الحلول في معالجة ملف العبودية والعنصرية. لو تم الوفاء بوعد لينكولن، لتغيرت بنية الجسم الإجتماعي الأمريكي ولأصبح العالم أمام نموذج ملهم للعدالة الإنتقالية، كان من شأنه لو نجح أن يغير مجرى التاريخ. لو تم الوفاء بالوعد لكانت أمريكا نموذجا ملهما لكثير من الشعوب، خلال القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، للتحرر من ربقة الاستعمار والمطالبة بجبر أضراره. لو لم يسقط وعد أبراهام لينكولن ما كانت الولايات المتحدة الأمريكية وبعض دول أوربا لتنزف اليوم من جرح العبودية والماضي الإستعماري الذي لم يَندَمل.
بسبب هذا الجرح الذي لم يندمل، خرج الآلاف من مناهضي العنصرية في بريطانيا، الأسبوع الماضي، لتخريب نصب تذكاري لأشهر وزير أول عرفته بريطانيا، صاحب الإنجازات إبان الحرب العالمية الثانية، السير ونستون تشرشل، بسبب مواقفه العنصرية من الهنود والأكراد وغيرهم من الشعوب التي كانت ترزح تحت نير الإستعمار البريطاني. كما فكك آخرون نصبا تذكاريا لتاجر العبيد إدوارد كولستون –Edward Colston – في مدينة بريستول بجنوب غرب بريطانيا. أحداث لم يجد الوزير الأول “بوريس جونسون” ما يواجهها به، إلا الأمر بتشكيل لجنة يعهد إليها الإنكباب على الفوارق على أساس عنصري . اما في بلجيكا، فالآلاف من مناهضي العنصرية يوقعون عرائض تدعو إلى تفكيك تمثال الملك ليوبولد الثاني (1835 – 1909) بسبب تورطه في مقتل عشرة مليون كونغولي إبان الإستعمار البلجيكي للكونغو. فإن كان البعض يَعتَبرُه الملك البَاني لبلجيكا، فآخرون يعتبرونه مجرما بنى بلاده بدماء وثروات شعوب المستعمرات.
في مقال له نشر على صفحات جريدة “لوموند الفرنسية”، أوضح الإقتصادي الفرنسي “توماس بيكيتي” – Thomas Piketty- بأن المظاهرات ضد العنصرية وأعمال الشغب التي هزت الولايات المتحدة الأمريكية بعد مقتل المواطن الأمريكي جورج فلويد يوم 25 ماي الماضي، لا يمكن تحليلها إلا بالعودة إلى تاريخ العبودية وإلى أشباه الحلول التي كانت تواجه بها الإدارة الأمريكية انتفاضات مواطنيها من أصل أفريقي. بالنسبة له، في كل مرة يخرج المواطنون للتظاهر ضد العنصرية، تَطرَح مسألة جبر الضرر نفسها، فجبر ضرر ماضي العبودية والإستعمار وكيف ما كانت تعقيداته لا يمكن أن يترك جانبا إلى الأبد. في تحليله لوعد الرئيس أبراهام لينكولن للسود، أوضح توماس بيكيتي بأنه لو تم الوفاء بالوعد لكان من شأن ذلك التأسيس لإعادة توزيع الثروة لفائدة ضحايا العبودية. للأسف لم يتحقق الوعد وبقي الجرح مفتوحا على كل الاحتمالات المرعبة سواء في أمريكا أو بعض دول أوروبا، وأصبح الأمر مكلفا جدا ومهددا للعيش المشترك الذي يعد الأساس الذي تَعتَمد عليه الدول في دوامها واستمراريتها.
لا شك وأن الكثير من حكومات وشعوب العالم تنظر اليوم إلى جرح العبودية والماضي الإستعماري وهو ينزف في أوروبا وأمريكا، ولا شك ان العاقلون من الحكام والشعوب على حد سواء سيستخلصون العبر والدروس من كلفة إسقاط وعد “البغل وستة عشر هكتارا من الأراضي”. على المغاربة أيضا، حكاما ومحكومين، أن يستخلصوا ما يلزم من الدروس مما يحدث حولنا، على الجميع أن يعرف بان نقض الوعود والعهود وإفراغ الدستور من مضمونه مكلف جدا، ومن شأنه أن يرهن حاضر ومستقبل المغرب. فهناك اليوم في أوساط البيروقراطية المغربية والطبقة السياسية، محافظون يريدون أن يعودوا بالمغرب إلى ما قبل سنة 2011 من خلال الإجهاز على المكتسبات الديمقراطية. بالأمس كان المغاربة مع فضيحة مشروع القانون رقم 20/22 السيئ الذكر، واليوم هناك من يحاول تمرير مشروع قانون 04/20 بشأن البطاقة الوطنية، الذي يعصف بالدستور والقانون التنظيمي بشأن تفعيل الطابع الرسمي للغة والثقافة الأمازيغية.
المغرب في حاجة إلى من يعالج جراحه لا إلى من يعمقها.