بقلم: علي موريف
هو سؤال يتداوله الناس بمختلف مشاربهم وفئاتهم، في مختلف الفضاءات، ومن على صفحات التواصل الاجتماعي دون الوصول إلى جواب شافٍ ومقنعٍ. جوابٌ من شأنه تبرير تلك الأحكام الظالمة، بل وقبلها إيجاد داعٍ من وراء اعتقال هؤلاء الشباب بشكل تعسفي وتحكمي يكشف، بشكل لا غبار عليه، الوجه الحقيقي لطبيعة الدولة. لا شيء يبرر هذا التعامل السلطوي ضد المحتجين سلمياً والمطالبين بأبسط الحقوق الأساسية التي تكفلها كل شرائع السموات والأرض، بل تلك الحقوق والواجبات والالتزامات هي أساس وجود الدولة أصلاً وعلة استمرارها.
فوجود الدولة، كما حدّدها وأرسى أسسها الفلسفية والفكرية كبار المنظرين في القرون الماضية، مُرتبط أساساً بالعقد الاجتماعي بينها وبين المواطنين الذين يدخلون في نطاق هذه الدولة. هذا التعاقد هو الذي يجيز للدولة احتكار ما يمكن تسميته بـ”العنف المشروع” وتوظيفه في نطاق القانون والتشريعات المحلية والدولية وعقلنته بما لا يلحق أي ضرر بالأنفس والممتلكات بالشكل الذي لا يحفظ آدمية المواطن. كما يجيز لها استخلاص الإتاوات والضرائب من المواطنين وهيئاتهم المختلفة مقابل الالتزام بتوفير كل ممكنات العيش الكريم لمواطنيها من أمنٍ وأمانٍ على حياتهم وتعليم يليق بتحولات المرحلة وتطبيبٍ وشغلٍ يكفل تلبية الحاجيات والرغبات ويحق الطموحات والأحلام. وقبل ذلك وبعد؛ توفير مناخٍ من الحرية والكرامة الآدمية لتنمية الإنسان والارتقاء بملكاته ومؤهلاته وفتح الآفاق أمامه بما يحقق النماء والازدهار للفرد كما للمجموعة الوطنية برمتها. ومع ذلك؛ يبقى هذا الأمر، في مجمله، في ظل هذا السياق، من قبيل التنظير غير المجد، والذي لا فائدة ولا مردودية من استحضاره ما دام الأمر يتعلق بشيء آخر غير دولة القانون والمؤسسات والحقوق والحريات.
لاشك أن من بيدهم القرار يريدون، من خلال هذه الأحكام الجائرة والظالمة، بعث رسائل سياسية قوية إلى كل النشطاء والمؤطرين وصانعي الدينامية في أوصال المجتمع، حتى ينخرط في تحرك مُنظم يفرض تحقيق، على الأقل، الحد الأدنى من الحقوق والحريات، ويلزم الدولة بالوفاء بتعهداتها. ومفاد هذه الرسائل ما سنأتي على ذكره.
أولا: أن كل من سوّلت له نفسه الإقدام على أيّ شكل من أشكال الاحتجاج والاستماتة في الدفاع عن الحقوق والحريات والكرامة مصيره أصبح يتراءى له أمام عينيه، ويجب عليه أن يرى العبرة في واقع هؤلاء الشباب ووضعيتهم مع عائلاتهم ومقربيهم وما يعانونه على جميع الأصعدة والمستويات. ومن ثمة عدم اتخاذ حراك الريف نموذجاً يُقتدى به في تنظيم الدّيناميات المجتمعية المحلية، التي أفرزت رهانات جديدة ونخب قيادية تجاوزت تلك النخب المترهّلة، ولها خصائص مُغايرة للنمط التقليدي، والتي أصبحت اليوم تتجاوز النموذج الاحتجاجي المؤطّن في الحواضر والمراكز الكبرى؛
ثانيا: اعتبار التحرك الشعبي الذي ظهر مع تكتل عشرين (20) فبراير 2011، والذي انفلت، ولو في بداياته الأولى، من القبضة الكلية للسلطة وفرَض بعض التغييرات المرحلية وخلخل موازين القوى لبُرهةٍ من الزمن؛ وهو ما يستحيل السماح له، حسب العقيدة الأمنية للدولة، بالبروز والظهور ثانية. بل يقتضي الأمر وأده بشكل نهائي حتى يصبح جثة هامدة لا تقبل النفخ فيها من جديد، وتعيد فتح آفاق جديدة أمام فئات عريضة من المجتمع المغربي وتخرجها من حالة الضياع والفاقة والحاجة وغياب الحقوق والحريات الأساسية. فالحِراكات المحلية التي يقودها الشباب، الذي لم تكن له سابق تفاوض مع السلطة، باتت مصدر قلق وعدم ارتياح بالنسبة لمستقبل النافذين ومُحتكري ثروات البلاد وخيراتها المادية والرمزية؛
ثالثا: أن مراكز النفوذ وصناعة القرار في مأمن من أية مُحاسبة ومساءلة لا من طرف الداخل، السلطة القضائية في حالة استقلاليته، ولا أمام مختلف هيئات وآليات حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة، بالنظر للظرفية السياسية التي تمر منها دول شمال إفريقيا والشرق والأوسط، وما ترتب عن ذلك من إشكالات عويصة وقضايا جديدة على مسرح القارة الأوروبية تحديداً. فأفواج المهاجرين والأزمات الداخلية التي تلت ذلك في كثير من البلدان الأوروبية خلال الفترة الممتدة بين 2013-2016، سبب كاف، بالنسبة لحكوماتهم، وربما شعوبهم بدرجة أقل، لغض البصر عما يمكن أن يحدث من تجاوزات على حقوق الإنسان في البلدان التي تتغنى بأطروحات من قبيل الاستقرار وثورة الصناديق وصوتكم فرصتكم …وهلم جرا من التعابير الإنشائية الفاقدة حتى لمعناها البلاغي؛
رابعاً: أن الواقع الحالي لموازين القوى، بتحدياته ورهاناته الكبرى، بات محسوماً لصالح من يناهضون التغيير ومن ليس في مصلحتهم إرساء دولة تحترم نفسها وتحترم مواطنيها وتنال احترام الغير. غير أننا، في ظل هذه الظرفية بالذات، فليس هناك وضع مستقر على حال إلى الأبد. فنحن نعيش عصراً آخر ملؤه الحركة، عكس الجمود وتقديس الأوهام، والدّينامية وصناعة التغيير مهما كانت التكلفة باهظة والثمن غاليا. فمهما بدا الوضع مستقراً للبعض، إلا أنه استقرار هشّ ومبني على المظالم وسلب الحقوق ووأد الحريات وسجن المجتمع في سجن كبير ومفتوح دون أمل وحلم إيجابي، على الرغم وجود بعض العناصر والتراكمات التي بإمكانها تطوير بلادنا والرقيّ بها نحو مصاف الدول الجديرة بالاحترام والوقار. وليس هناك أكثر قسوة من أن يفقد الفرد/الجماعة الأمل في المستقبل ويُصادر حقه في الحُلم بواقع أفضل من الذي يعيشه.
بالنتيجة أقول؛ أن ليس هناك أي جُرم ارتكبه هؤلاء الشباب يُجيز للدولة الاستمرار في اعتقالهم وسجنهم فما بالك بإنزال أشد العقوبات عليهم وكأنهم مُجرمي حرب ومقترفي الإبادة الجماعية والتطهير العرقي. هم مواطنين لم يطالبوا جهاراً نهاراً إلا بما يطالب به الكثيرون في منتديات مغلقة ومجالس محدودة. فالعدل أساس المُلك، وغيابه مبتدأ ومنتهى الخراب والشعور بالضيم والإحساس بالحُكرة والغبن.
ومهما يكن من أمر؛ يظل التغيير أمراً فزيائياً وطبيعياً ومنطقياً يشمل الطبيعة والأشياء والأجسام التي تبدو جامدة فما بالك بالمجتمع ومؤسساته وقوانينه وهياكله الذي يجري التغيير في بنياته مجرى الدم في الشرايين. فدوام من المُحال كما يقال.