من الأسطورة إلى الشاشة: تمثلات المسخ في المتخيل الرمزي الأمازيغي ” إليس ووشن نموذجا”

نعيمة محتاين أريناس

يحتل موضوع المسخ الإلهي مكانة بارزة في الثقافة الشعبية، حيث يتجلى باعتباره عقابا فوقيا ينزله الإله على الأفراد أو الجماعات التي تخالف القواعد الأخلاقية والدينية. يرتبط هذا التصور بأساطير الخلق وإعادة التشكيل، حيث يتحول الإنسان إلى كائن آخر – حيوان أو نبات أو حتى حجر – كجزاء على أفعاله. تتقاطع هذه الرؤية مع معتقدات عديدة، من الأساطير وحتى في الأديان التعددية إلى القصص الدينية التوحيدية، لكنها تتخذ أشكالا خاصة في السياقات الثقافية المحلية، ومنها الثقافة الأمازيغية.

اليوم نرى أن هذا النسق الأنثروبولوجي -أي المسخ الإلهي- في الثقافة الأمازيغية عرف امتدادا حديثا في الأعمال التلفزيونية التي تستلهم الميثولوجيا الشعبية، ومن بين هذه الأعمال المسلسل الرمضاني ” إليس ن ووشن”، الذي أعاد إحياء الموروث السردي من خلال توظيف المسخ كشكل من أشكال العقاب ، ولكن برؤية درامية معاصرة. في هذه السلسلة، يتحول المسخ من مجرد سردية تراثية إلى عنصر بصري وسردي يوظف لخلق الإثارة والتشويق، مع إبراز البعد الرمزي للصراع بين الخير والشر، والتجاوزات التي تؤدي إلى فقدان الإنسان لإنسانيته.

اذ يستعيد المسلسل بعض الثيمات المتجذرة في الموروث الأمازيغي، حيث تتحول شخصية ” ايدوس ” أكرام الى شخصية ” ماكوس” ثم بعدها أصبح غليم بسبب إرتكابه لخطأ لا يغفر، وحين نعود الى الميثولوجيا والحكايات القديمة لدى الأمازيغ وغيرهم من الشعوب القديمة، نجدها غنية بهذا النوع من المسخ أي إنتقال بعض الشخصيات إلى كائنات غير بشرية بسبب خيانتهم للعهد أو تعديهم على المحظورات، وهو ما يذكر بالحكايات الشعبية التي تروي عن قرى مسخت، أو أفراد تحجروا في الطبيعة. غير أن “إليس ن ووشن” لا تقتصر على استنساخ هذه الأساطير، بل تعيد إنتاجها ضمن سياقات جديدة، تعكس قضايا اجتماعية معاصرة، مثل الطمع، والخيانة، والصراع على السلطة والبحث عن المفقود.

يتميز توظيف المسخ في هذه السلسلة بتركيبته البصرية المؤثرة، حيث تستعين بتقنيات خاصة لإظهار التحولات الجسدية، مما يمنح المشاهد بعدا تجريبيا يقربه من أجواء الميثولوجيا الأمازيغية، ولكن بأسلوب سينمائي حديث. كما أن تيمة المسخ هذه لا تقدم دائما كعقاب فردي فقط، بل تتخذ أحيانا شكل لعنة جماعية تطال مجتمعات بأكملها، ما يعيد إلى الأذهان الروايات الشعبية حول القرى التي اختفت بسبب تجاوزاتها الأخلاقية أو تحديها لقوى الطبيعة والميتافيزيقا.

بهذا التوظيف، لا تكتفي “إليس ن ووشن” بإحياء الموروث الشفهي الأمازيغي، بل تسهم أيضا في تحديثه وإعادة تأويله وفق رؤية معاصرة، تجعل من الأسطورة الأمازيغية مادة درامية قابلة للتفاعل مع القضايا الراهنة، مما يؤكد استمرارية الحكاية الشعبية في الوعي الجماعي، سواء في الماضي أو في العصر الحديث.

وبالعودة مجددا الى تقديم بعض القراءات البسيطة لهذا النسق في الثقافة الأمازيغية، فقد يحتفظ المسخ الإلهي بخصوصيته من حيث تجذره في الميثولوجيا المحلية والقصص الشعبية التي تسردها الأجيال جيلا بعد جيل. يظهر المسخ في الحكايات كوسيلة لتثبيت القيم الأخلاقية وتنبيه الأفراد إلى عواقب تجاوز الحدود المرسومة من قبل الجماعة والإله. في بعض الروايات، يتحول العاصي إلى حيوان، وغالبا ما يكون هذا الحيوان موصوما بسمة سلبية، وهو ما يعكس استبطانا محليا لفكرة المسخ الموجودة في الديانات السماوية. لكن في روايات أخرى، قد يأخذ المسخ شكل تحجر الإنسان في صخور أو تحوله إلى عنصر من عناصر الطبيعة، مما ينسجم مع التصور الأمازيغي الذي يمنح الطبيعة بعدا روحانيا.

إحدى أشهر القصص التي تتداولها الثقافة الأمازيغية تتعلق بنساء تحولن إلى ينابيع ماء أو رجال صاروا أحجارا بسبب خيانة عهد أو تجاوز محرم اجتماعي. يبرز هذا التصور ليس فقط كأداة للعقاب، بل أيضا كنوع من الخلود الرمزي، حيث تتحول الأجساد المعاقبة إلى معالم طبيعية، مما يرسخ ذاكرة الحدث داخل المشهد الجغرافي.

مما يعكس التصورات الفلسفية للإنسان حول القوى الخفية التي تحكم الطبيعة والمجتمع. فالجن والأرواح والكيانات الغيبية تلعب دورا في تنفيذ هذا المسخ، حيث ينظر إليها كوسطاء بين الإنسان والقوى الإلهية. في بعض الأساطير، يحكى عن كائنات بشرية مسخت لكنها لا تزال تعيش بين البشر في أشكالها الجديدة، مثل الأرواح التي تتجسد في حيوانات الغابات أو الصخور الناطقة، وهو ما يضفي على الفضاء الطبيعي بعدا أنثروبولوجيا مقدسا.

من ناحية أخرى، يمكن قراءة المسخ الإلهي بوصفه تجسيدا لخوف الجماعة من التغيرات الكبرى، سواء أكانت اجتماعية أم طبيعية. فالأمازيغ، كغيرهم من الشعوب، يستخدمون الأسطورة والمعتقدات الشعبية لتأويل الظواهر الغامضة، سواء كانت كوارث طبيعية أو تحولات جذرية في المجتمع. في هذا السياق، يفهم المسخ أحيانا كتمثيل رمزي للعقاب الجماعي الذي يعكس أزمات تاريخية، كحروب الإبادة أو المجاعات التي ضربت المنطقة.

يظل المسخ الإلهي إذن جزءا أساسيا من الخيال الشعبي الأمازيغي، حيث يجمع بين البعد الديني والأخلاقي من جهة، والبعد الرمزي والأنثروبولوجي من جهة أخرى. إنه ليس مجرد عقاب، بل سردية ثقافية تحافظ على استمرارية الذاكرة الجماعية من خلال الأسطورة. فبقدر ما يرسخ هذا النسق الأنثروبولوجي قيم المجتمع، فإنه يمنح أيضا هوية سردية تربط الإنسان الأمازيغي بأرضه وأسلافه، مما يجعله جزءا من منظومة أوسع تتجاوز حدود الفرد نحو الجماعة والطبيعة والميتافيزيقا.

اقرأ أيضا

التجمع العالمي الأمازيغي يبارك للشعب الكوردي عيد النيروز

بمناسبة حلول عيد النيروز، الذي يصادف يوم 21 مارس من كل عام، يتشرف التجمع العالمي …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *