خديجة يكن: الأمازيغية نبض حياة ووسيلة لإبراز قيم الإنسانية والجمال والكتابة بها فعل مقاومة (1/2)

خديجة يكن: الأمازيغية نبض حياة ووسيلة لإبراز قيم الإنسانية والجمال والكتابة بها فعل مقاومةباعتبار الكلمات بوابة عميقة نحو الأرواح والأفكار، وجسرا يتماهى عبره الإبداع مع الإنسانية. اليوم نلتقي بواحدة من الأصوات الأدبية الأمازيغية المغربية التي تماهت تجربتها مع عمق الهوية والثقافة، لتنحت في مسارات الكتابة الأمازيغية رؤى تتجاوز الحدود اللغوية والجغرافية.

يسعدنا أن نستضيف الكاتبة والشاعرة الأمازيغية خديجة يكن، التي جمعت بين التأليف بالعربية والأمازيغية، متأرجحة بين قوافي الشعر وأسرار القصة. عبر هذا الحوار، نسبر أغوار تجربتها الأدبية، التي شكلتها جذورها العميقة في أرض سوس، وصقلها شغف البحث والتعبير. من ديوان “إلودي” الذي أرخ لبداية جديدة في الشعر النسائي الأمازيغي، إلى مجموعة “أيام بوسنية” التي تحفر بصدق في ذاكرة الحروب والصراعات.

الأمازيغية نبض حياة ووسيلة لإبراز قيم الإنسانية والجمال والكتابة بها فعل مقاومة

مرحبا أستاذة خديجة، شكرا على قبولك دعوتنا لهذا الحوار. بداية، كيف تعرفين نفسك لجمهور قد يسمع عنك للمرة الأولى؟

خديجة يكن كاتبة مغربية، بالتعبير العربي والأمازيغي. ولدت في الدار البيضاء، تخرجت من كلية الآداب ابن مسيك. أصولها من سوس، وبالضبط أسا من جهة الأب، والقبيلة النضيفية لمدينت ن أكليم من جهة الأم، كلتاهما ضمن إقليم طاطا. عضوة تأسيس لرابطة كاتبات المغرب، شغلت منصب مسؤولة الأدب الأمازيغي في مكتبه المركزي خلال (2012-2018).

كيف بدأت رحلتك مع الشعر والقصة؟ وهل كان للثقافة الأمازيغية تأثير واضح في توجهك الأدبي؟

رحلتي مع الكتابة القصصية بدأت حين أرادت أفكاري وتصوراتي أن تخرج إلى الوجود، فلم يعد الصمت يروقها. كان ذلك بين نهاية الثانوية وبداية مشواري الجامعي، فكرت جديا في خوض غمار الكتابة الإبداعية، فانتهيت من كتابة أول قصة على الإطلاق سنة 1993، بعنوان «عندما تنساب كارمينا بورانا» والتي حصلت على جائزة الإسيسكو لأحسن قصة في العالم الإسلامي سنة 1996.

كنت أكتب القصة باللغة العربية قبل أن تولد رحلتي في الكتابة باللغة الأمازيغية. كانت الولادة شعرا. وجداني العميق لا يستطيع التعبير شعريا إلا باللغة الأم. كانت قصيدتي الأولى ذات مساء من 1998. توالت أشعاري فجمعتها لتصدر لاحقا في ديوانين. لم أكن أعرف الكثير عن الثقافة الأمازيغية، بدأت أكتشفها عبر مراحل قادتني أخيرا إلى التعبير بالأمازيغية شعرا في البداية ثم الرواية. رؤيتي الإنسانية في كتاباتي بالعربية ليست سوى تعبيرا عن البعد الإنساني الذي هو من صميم الثقافة الأمازيغية، كانت هويتي الأمازيغية توجهني منذ البداية دون دراية مني، فهي ثقافة فطرية لا تتوقف عن تشكيلي وتوجيهي.

كونك امرأة وكاتبة أمازيغية، ما هي التحديات التي واجهتك في مسيرتك الأدبية؟

كان أول تحدي لي هو أن أكتب بالأمازيغية. بالنسبة لكاتبة تؤلف قصصا بالعربية، كان من المدهش أن أفكر في التأليف بالأمازيغية. ذلك كان تحديا لذاتي قبل أي شيء. كوني أمازيغية، واجهت نمطية التصور الذي التصق عامة بالمرأة الأمازيغية. في بداياتي لم يكن معتادا رؤية شاعرة تلقي شعرا بالأمازيغية في الملتقيات الأدبية، كنت أسمع من يقترح علي لبس الزي التقليدي لأن الشعر الأمازيغي لا يناسبه سوى هذا الزي، لقد توقعوا سماع مواويل أحيدوس أو النظم المرافق لأحواش، كانت فكرة الشعر الأمازيغي فلكلورية في الأذهان. ثمة من كان يسألني في بعض اللقاءات من أي مدشر جئت، أو إن كانت أسرتي في الجبل وأنا وحيدة في المدينة!! أسئلة تشي بذهنية أصحابها وطبيعة تصوراتهم للأمازيغ عامة. هي نتيجة كرستها من جهة، عقود لم يكن يكشف على المرأة الأمازيغية في الحواضر كفاعلة ثقافية أو فكرية أو في غيرها من المجالات، بل لا نعرف أنها مؤسسة للكتابة الإبداعية المغربية بالفرنسية والعربية، ومن جهة أخرى صمت الكثير عن هويتهم التي حرصوا على إخفائها. كان تحديا لي ككاتبة أمازيغية أن أغير تلك التوقعات النمطية. كما عشت في بداياتي مواقف غريبة في بعض الملتقيات الثقافية، حيث كان مسؤولوها التنظيميون يحددون للغة الأمازيغية قصيدة واحدة وللغات الأخرى أكثر من قصيدة. كان ذلك ميزا واضحا مؤذيا للمشهد الثقافي. لكن حين تعرف قيمة ثقافتك فلا تزيدك مثل هذه المواقف إلا التزاما لخلق التغيير الذي يحصل فعلا، فلم تعد هذه الظواهر مقبولة حتى عند من مارسوها سابقا.

من ناحية أخرى لم أعش كامرأة اضطهادا ذكوريا لأشعر بضرورة الكتابة لإنصاف نوعي الجنسي من الذكورة، هذه فكرة نمطية أخرى عن المرأة الكاتبة، كأننا ننتظر منها عقلية الضحية، شكوى من حظها الأنثوي، أو الانضمام لثقافة الفيمينيسم. إن أول من ساندني في تحقيق حلمي كامرأة كاتبة هما رجلين بمعنى الكلمة، أبي وأخي. لكن المفارقة أني وجدت الذكورة خارج أسرتي. أذكر أول مرة قدمت فيها قصة إلى دار نشر، وذلك في تسعينيات القرن العشرين، تعامل معي مديرها كامرأة لها حدود في الكتابة، لم يهتم لاختياراتي الأدبية. اقترح علي أن أكتب عن المحيط الاجتماعي كمواضيع المرأة ومشاكلها وقصص رومانسية للفتيان، ونصحني بأن أكون مثل الصياد الذي يضع اللقمة المناسبة في الصنارة. لو تصرفنا بهذا المنطق لما قامت للهوية الأمازيغية قائمة. فالكتابة فعل تغييري يحتاج إلى أقلام لا تفكر بعقلية الصياد.

أنا أمازيغية، وهذا يعني أني تاريخيا سليلة ثقافة تقدر المرأة وتنظر إليها كفاعل إنساني، ذلك يبني حريتي في الاشتغال وفق رؤيتي الخاصة. الحقيقة، تحدياتي ككاتبة أمازيغية مضاعفة، فأنا أشتغل على لغة لا زالت نسبة مقروئيتها ضعيفة ليس لسبب في ذات اللغة، بل في محدودية انتشارها المدرسي طوال أجيال، وبطيء غير مفهوم في تعميمها على كل مراحل التعليم مما لا يدعم مقروئيتها.

رحلتي الأدبية كانت مرهقة وشيقة في آن، زادتني إصرارا واستمرارية. لم يكن طريقي ككاتبة أمازيغية مليئا بالزهور، لقد سعيت بجد وصبر والتزام لأشق هذا الطريق.

ما الذي يمثله لكِ ديوان “ILUDI” ؟ وهل تعتبرينه محطة رئيسية في مسيرتك الأدبية؟ وما هي الفكرة الأساسية التي أردتِ إيصالها من خلاله؟

ديوان «إلودي» هو بالفعل محطة رئيسية في مسيرتي الأدبية، وفي مسيرة الشعر النسائي الأمازيغي. فهو أول ديوان نسائي باللغة الأمازيغية تشلحيت. «إلودي» رسالة امرأة شاعرة لا تختفي في الذاكرة الشفوية كمنتوج جماعي. «إلودي» ابتدأ مرحلة شعر نسائي مكتوب بين دفتي كتاب، وهذا جديد وقتها لدى المرأة السوسية. في السابق كان يتم التعامل مع المرأة الأمازيغية السوسية كموضوع، مع «إلودي»، كفت هذه المرأة أن تكون موضوعا في أعمال الآخرين، صارت ذاتا تتحدث عن نفسها بنفسها، هكذا كان ميلاد الكتابة الشعرية النسائية بالأمازيغية تشلحيت. «إلودي» حكاية شاعرة أتت من رحلة وعي قاسية وطويلة بحثا عن هويتها الأمازيغية. حكاية شاعرة تقدم نفسها للمشهد الأدبي المغربي بوصفها كاتبة مغربية بلغتها الأم. شاعرة تعمل وتحتفظ بالنقود لتصدر مشروعها الذي لما دُفع إلى المطبعة تأخر كثيرا عن موعد صدوره، وكاد ألا يصدر أبدا في تلك السنة لولا إصرارها المستميت. صدر ديوان «إلودي» بلغة غير مدسترة حينها فهذه رسالة. لم يكن سهلا تقديم عمل بلغة غير مدسترة لمكتبة كبيرة في الدار البيضاء، قلت لصاحب المكتبة أني أريد هذا الكتاب في الواجهة الأمامية الزجاجية، ليراه الناس من المارين وزوار المكتبة على السواء. أردت المساهمة في فرض احترام هذه اللغة.

جاء الديوان محملا بمواضيع عدة، الطفل والرجل، المهمش والمرأة المهاجرة، الطبيعة والعالم والحكاية والذاكرة، والهوية، وعني أيضا، كما لو أردت قول كل شيء في كتاب واحد. عبر «إلودي» أردت القول أن ما من لغة أخرى تثير غيرة اللغة الأمازيغية. أرى خطواتي الصغيرة تتقدم بكفاح هادئ، فقد بقينا طويلا في الظل وحان الوقت أن ننعم بالضوء.

ماذا عن مجموعتك القصصية “أيام بوسنية” ذات العنوان المثير للفضول، ما الذي ألهمك لهذه القصص؟ وهل تستند إلى أحداث حقيقية أم هي من وحي الخيال؟

أعجبني وصفك للعنوان أنه مثير للفضول. هذا فعلا ما دفع بعضا ممن قرأوا الكتاب أن يظنونني بوسنية، لقد سُئلت إن كان أحد والديَّ بوسني!! اعتبرت ذلك دليل توفيقي في إيصال صوت ذاك الشعب، صوته فقط وليس حتى صوتي المتضامن كأجنبية. توجت «أيام بوسنية» على رأس جائزة الطيب صالح العالمية للإبداع الكتابي في السودان عام 2018. لجنة تحكيم الجائزة احتارت في جنسية الكاتب. ظنوا أن صاحب هذه القصص كاتبا ولم يخطر ببالهم أنها كاتبة. واحتاروا في بلده، فأنا لم أشر إلى جنسيتي بكل بساطة لأن أيام بوسنية هي توثيق أدبي للحرب البوسنية بين [1992ـ 1995]، فلا معنى لإقحام شخصيات أجنبية مغربية أو شرقية أو غربية في قضية بطلها الوحيد هم البوسنيون.

كنت في الثانوية والقضية البوسنية أفضت بي إلى الكتابة، إنها بداية رحلتي في القصة. عشت مأساة الشعب البوسني كصدمة إبان ما سمي بالحرب اليوغوسلافية. انطلقت في بحث مضني لأعرف أكثر عن قضية شعب مطمور تحت اسم الإتحاد اليوغوسلافي. «أيام بوسنية» ليست قصصا عن تضامني، وليست رثاء للبوسنيين، ولا هجاء للصرب أو الكروات أو القوى العالمية الكبرى. «أيام بوسنية» هي توثيق أدبي لحرب قاسية، هذا هو الهدف.

كان التحدي كيف أتكلم عن قضية صعبة مثل معسكرات الاغتصاب الجماعي دون أن أسقط في كتابة تشبه مراسلة حربية، ومع احترام تام لمشاعر شعب تجاه هذه النقطة بالذات. فجاءت قصة «الدم الطابو» بعد تفكير مركز حول هذه المعادلة.

«أيام بوسنية» هي أيام من تاريخ بلد. هول الكارثة تجعلني أستحي من إسناد البطولة لغير ذاك الشعب، تلك رؤيتي الموجهة لهذه القصص. جاء تأليفها بعد بحث مكثف ومعمق في جميع النواحي التاريخية والحضارية والثقافية اليوغوسلافية عامة والبوسنية خاصة. في ذاك الوقت لم يكن هناك انترنت ولا غوغل. بحث في مجلات وصحف ودوريات ثقافية تعود للسبعينيات، بحث في مقالات ودراسات تهتم بشؤون البلقان. كنت أقضي وقتا في مكتبات قديمة بدرب غلف، ووجدت المهم من المعلومات، تكونت لدي رؤية واضحة المعالم تؤهلني للكتابة عن ذاك الشعب، فالكتابة عن شعب لا نعرفه عملية حذرة.

الخيال والحقيقة هنا لا فواصل بينهما، فأصعب الأحداث تلك التي لم يتخيلها أحد. الحقيقة أن بذور الحرب بدأت منذ عقود طويلة، وكانت بذورا فكرية. استخدمت شخصيات وأحداث كأداة هدفها إبراز تلك البذور ونتائجها المدمرة. لهذا لن تجد قطرة دم هنا، لكنك ستجد ألوانا من المأساة الصامتة على الوجوه والحركات والأحلام، وألوانا من التشبث بالحياة رغم كل شيء. ستجد توثيقا أدبيا لقضية شعب صبور وفخور. لقد احترمت فخره في هذا العمل.

كيف تقيمين تأثير الأدب العالمي على كتاباتك؟ وهل هناك كتاب تعتبرينهم مصدر إلهام؟

أنا ممتنة لأدباء تعلمت منهم تقدير الأدب. أفضل كلمة التعلم على كلمة التأثير. كل من قرأت لهم تعلمت منهم شيئا. من هؤلاء الأدباء من رحلوا قبل قرون وتعلمت منهم، فالأرواح الساكنة بين الفقرات يمكن التقاطها. في خزانة كتب أحد أصدقاء الأسرة تعرفت على روايات لاتينية وسوفياتية، وحكايات من الصين. كنت طفلة وكنت كأليس في بلاد العجائب. لا أمل من تفقد تلك الخزانة الساحرة حيث تصطف كتب أكبر من عمري، قرأت لمكسيم غوركي وأنا في 11من العمر، وفي الثانوية اشتريت رواية لميخائيل شولوخوف.

كانت سعادتي الكبيرة حين أجلس في غرفتي برفقة هؤلاء الأدباء الذين تلقيت سحر الأدب عبر أقلامهم. الأدب العالمي ساهم فعليا في تعليمي تذوق الأدب في وقت كنت قارئة ولم أظن قط أني سأكون ذات يوم كاتبة. هناك أدباء تركوا في نفسي انطباعا خالدا، بول فيغلان وشعراء آخرون من فرنسا القرن 17 و18 و19. هناك القصاص والروائي الألماني هاينريش بول، والأمريكي ويليام فوكنر، والمغربي ادريس الشرايبي.

حاورها: خيرالدين الجامعي

اقرأ أيضا

أمسبريذ: الأدب الأمازيغي يقاسي تهميشا بنيويا مهولا بالمقارنة مع غيره في بلادنا

أمسبريذ: الأدب الأمازيغي يقاسي تهميشا بنيويا مهولا بالمقارنة مع غيره في بلادنا

في دروب الزمن حيث تلتقي الحكاية بالشعر، وتتشابك الكلمات لتنسج عالمًا يفيض بهوية تنبض بالحياة، …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *