أخبار عاجلة

صرخة العدد 289 فبراير 2025/2975

في سياق النقاش حول العلمانية، من الضروري تجاوز المفاهيم الخاطئة التي تُروّج عنها، خاصة عندما يتم اختزالها في معاداة الدين أو استيراد نموذج غربي لا يراعي الخصوصية المغربية. فالعلمانية في المغرب ليست نقيضاً للدين، بل هي تجربة متفردة نشأت من داخل المجتمع المغربي نفسه، متكيفة مع تاريخه وتركيبته الثقافية، بهدف تحقيق الاستقرار والانسجام بين مختلف مكوناته. إن فهم العلمانية على أنها فصل للدين عن السياسة، وليس عن الدولة، هو أمر بالغ الأهمية لضمان عدم استغلال الدين كأداة للصراع السياسي، وفي الوقت نفسه احترام دوره الروحي والأخلاقي داخل المجتمع.

هذا النموذج من العلمانية ليس غريباً عن التقاليد المغربية، بل هو امتداد لما كانت تمارسه المجتمعات الأمازيغية منذ قرون. فقد كان تدبير الشأن العام في القبائل الأمازيغية يُقسم بين “أمغار” أو رئيس الجماعة، الذي كان مسؤولاً عن تسيير الأمور اليومية وحل مشاكل الناس، وبين “فقيه القبيلة” الذي كان يهتم بالشؤون الدينية والروحية. هذا الفصل العملي بين ما هو سياسي وإداري وما هو ديني يعكس وعياً عميقاً بأهمية عدم خلط الدين بشؤون الحكم، حفاظاً على التوازن داخل المجتمع.

إضافة إلى ذلك، كانت هذه المجتمعات تؤمن بمبدأ المسؤولية الفردية، حيث يُجازى كل إنسان على أفعاله دون أن يتحمل الآخرون وزره. وهذا المفهوم يتجلى في المثل الأمازيغي الشهير:

«ⴽⵔⴰⵢⴳⴰⵜ ⵜⵉⵅⵙⵜ ⵜⵜⵢⵉⴳⵉⵍ ⵖ ⵓⴹⴰⵕ ⵏⵏⵙ» “كل شاة تعلق من رجليها”، الذي يعني أن كل فرد مسؤول عن أفعاله، وعند الله يُجازى كل واحد بما كسب. هذا التصور يعكس رؤية تقوم على العدل والمحاسبة الفردية، بعيداً عن أي توظيف للدين لخدمة مصالح سياسية أو فئوية.

إحدى الخصوصيات الكبرى التي تميز المغرب عن غيره من الدول هي نظام إمارة المؤمنين، الذي يقوم على فكرة أن أمير المؤمنين هو راعٍ لجميع المؤمنين بغض النظر عن دياناتهم، وليس للمسلمين وحدهم. فكلمة “المؤمنين” هنا تشمل كل من يؤمن بالله، سواء كان مسلماً، أو يهودياً، مسيحياً أو غيرهم. وهذا المفهوم العميق يعكس الرؤية المغربية المنفتحة التي لا تقصي أي مواطن بناءً على معتقده، بل تكرس مبدأ المواطنة المتساوية في ظل وحدة وطنية جامعة.

وبفضل هذا التصور، لم يكن الدين في المغرب يوماً سبباً للفرقة أو التمييز بين المواطنين. فقد عاش المسلمون واليهود والمسيحيون في هذا البلد جنباً إلى جنب عبر قرون، وساهموا جميعاً في بناء حضارته واقتصاده وثقافته. لذا، فإن أي محاولة لتوظيف الدين في السياسة تتعارض مع هذا الإرث المشترك، لأنها تسعى إلى تقسيم المغاربة بناءً على انتماءاتهم الدينية، بدلاً من تعزيز الروابط التي تجمعهم.

لقد أثبتت التجارب، سواء في المغرب أو في دول أخرى، أن خلط الدين بالسياسة لا يؤدي إلا إلى التوترات والانقسامات. فعندما يتم توظيف الدين كأداة لتحقيق مكاسب سياسية، يصبح ميداناً للصراع بين الأحزاب والتيارات المختلفة، مما يفقده قدسيته ورسالته الروحية. وهذا ما شهدناه في العديد من البلدان، حيث تحولت الممارسات السياسية ذات الطابع الديني إلى وسيلة للإقصاء والتخوين ما يؤدي في غالب الأحيان الى حروب طائفية وأهلية.

أما في المغرب، فقد سمح النموذج العلماني – الذي يقوم على حماية الدين من التوظيف السياسي – بالحفاظ على التعددية الدينية والفكرية، وفتح المجال أمام جميع المواطنين للمشاركة في الحياة العامة دون تمييز. إن هذه العلمانية لا تعني أبداً إقصاء الدين من المجتمع، بل تعني فقط أنه لا ينبغي لأي طرف أن يحتكر تفسيره أو يستغله لتحقيق مكاسب سياسية على حساب وحدة الوطن.

يستخدم البعض خطاب التخويف من العلمانية بوصفها تهديداً للدين أو محاولة لإقصائه، لكن الواقع يثبت عكس ذلك. فالعلمانية المغربية لم تنشأ من فراغ، ولم تُفرض من الخارج، بل هي نتاج تجربة طويلة من التعايش والتطور السياسي والاجتماعي. وهي التي ضمنت للمغرب استقراره في وقت عانت فيه العديد من الدول من الفوضى بسبب تسييس الدين.

إن الدفاع عن هذا النموذج لا يعني التقليل من شأن الدين، بل العكس تماماً: إنه دفاع عن نقائه واستقلاليته عن التجاذبات السياسية. كما أن العلمانية لا تعني حرمان الأفراد من ممارسة شعائرهم الدينية أو التعبير عن معتقداتهم، بل تعني فقط أن الدولة، كمؤسسة، يجب أن تبقى محايدة، وأن تضمن لجميع المواطنين نفس الحقوق والواجبات دون تمييز.

المغرب وطن للجميع، وإمارة المؤمنين تشمل جميع المؤمنين، والعلمانية المغربية هي الضامن لهذه الوحدة، لأنها تمنع أي جهة من احتكار الدين لتحقيق مكاسب ضيقة، وتكرس مبدأ الدولة العادلة التي تساوي بين مواطنيها. إن المستقبل لن يكون لمن يزرع الخوف والتفرقة، بل لمن يدرك أن الوحدة الوطنية تُبنى على الاحترام المتبادل، والتعايش السلمي، وفصل الدين عن السياسة لضمان استقرار البلاد وحماية مقدساتها.

وقديما قال الحكيم الامازيغي:

ⵡⴰⵏⵏⴰ ⵉⵏⵖⴰⵏ ⴽⵔⴰ ⵢⵜⵜⵛ ⵜ
Wanna inghan kra yttc t

من يقتل طريدة فليأكلها

صرخة العدد 289 فبراير 2025/2975– جريدة العالم الأمازيغي

اقرأ أيضا

أمينة ابن الشيخ

صرخة العدد 291 ابريل 2025/2975

في زمننا هذا وللأسف، زمن التشويش والتشويه، أصبح المغاربة يعيشون على وقع صدمات، تضرب في …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *